وَالتَّوْحِيدُ الَّذِي يُنَاقِضُ الشِّرْكَ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِعْتَاقِ الْإِنْسَانِ مِنْ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ، وَكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ، وَجَعْلِهِ حُرًّا كَرِيمًا عَزِيزًا لَا يَخْضَعُ خُضُوعَ عُبُودِيَّةٍ مُطْلَقَةٍ إِلَّا لِمَنْ خَضَعَتْ لِسُنَنِهِ الْكَائِنَاتُ، بِمَا أَقَامَهُ فِيهَا مِنَ النِّظَامِ فِي رَبْطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبِّبَاتِ، فَلِسُنَنِهِ الْحَكِيمَةِ يَخْضَعُ، وَلِشَرِيعَتِهِ الْعَادِلَةِ الْمُنَزَّلَةِ يَتْبَعُ، وَإِنَّمَا خُضُوعُهُ هَذَا خُضُوعٌ لِعَقْلِهِ وَوِجْدَانِهِ، لَا لِأَمْثَالِهِ فِي الْبَشَرِيَّةِ وَأَقْرَانِهِ، وَأَمَّا طَاعَتُهُ لِلْحُكَّامِ فَهِيَ طَاعَةٌ لِلشَّرْعِ الَّذِي رَضِيَهُ لِنَفْسِهِ، وَالنِّظَامِ الَّذِي يَرَى فِيهِ مَصْلَحَتَهُ وَمَصْلَحَةَ جِنْسِهِ، لَا تَقْدِيسًا لِسُلْطَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُمْ، وَلَا ذُلًّا وَاسْتِخْذَاءً لِأَشْخَاصِهِمْ، فَإِنِ اسْتَقَامُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ أَعَانَهُمْ، وَإِنْ زَاغُوا عَنْهَا اسْتَعَانَ بِالْأُمَّةِ فَقَوَّمَهُمْ، كَمَا قَالَ الْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى بَعْدَ نَصْبِ الْأُمَّةِ لَهُ وَمُبَايَعَتِهَا إِيَّاهُ :" وُلِّيتُ عَلَيْكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي "، فَهَكَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ شَأْنُ الْمُوَحِّدِينَ مَعَ حُكَّامِهِمْ، وَهَكَذَا يَكُونُونَ سُعَدَاءَ فِي دُنْيَاهُمْ بِالتَّوْحِيدِ، كَمَا يَكُونُونَ أَشْقِيَاءَ بِالشِّرْكِ الْجَلِيِّ أَوِ الْخَفِيِّ.