والمقصود من القرآن بيان هذه الأنواع الثلاثة، وهذه السورة الكريمة مشتملة على تقرير هذه المطالب الثلاثة على أكمل الوجوه : فقوله :﴿الحمد للَّهِ رَبّ العالمين الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين﴾
إشارة إلى علم الأصول : لأن الدال على وجوده وجود مخلوقاته، فقوله :﴿رَبّ العالمين﴾
يجري مجرى الإشارة إلى أنه لا سبيل إلى معرفة وجوده إلا بكونه رباً للعالمين، وقوله :﴿الحمد للَّهِ﴾
إشارة إلى كونه مستحقاً للحمد، ولا يكون مستحقاً للحمد إلا إذا كان قادراً على كل الممكنات عالماً بكل المعلومات، ثم وصفه بنهاية الرحمة وهو كونه رحماناً رحيماً ثم وصفه بكمال القدرة وهو قوله مالك يوم الدين حيث لا يهمل أمر المظلومين، بل يستوفي حقوقهم من الظالمين، وعند هذا تم الكلام في معرفة الذات والصفات وهو علم الأصول، ثم شرع بعده في تقرير علم الفروع، وهو الاشتغال بالخدمة والعبودية، وهو قول :﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾
ثم مزجه أيضاً بعلم الأصول مرة أخرى، وهو أن أداء وظائف العبودية لا يكمل إلا بإعانة الربوبية، ثم شرع بعده في بيان درجات المكاشفات وهي على كثرتها محصورة في أمور ثلاثة : أولها : حصول هداية النور في القلب، وهو المراد من قوله تعالى :﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾
، وثانيها : أن يتجلى له درجات الأبرار المطهرين من الذين أنعم الله عليهم بالجلايا القدسية والجواذب الإلهية، حتى تصير تلك الأرواح القدسية كالمرايا المجلوة فينعكس الشعاع من كل واحدة منها إلى الأخرى، وهو قوله :﴿صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾
، وثالثها : أن تبقى مصونة معصومة عن أوضار الشهوات، وهو قوله :﴿غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ﴾
وعن أوزار الشبهات، وهو قوله :﴿وَلاَ الضالين﴾
فثبت أن هذه السورة مشتملة على هذه الأسرار العالية التي هي أشرف المطالب، فلهذا السبب سميت بأم الكتاب كما أن الدماغ يسمى أم الرأس لاشتماله على جميع الحواس والمنافع.


الصفحة التالية
Icon