وشاعت هذه الاستعارة حتّى صارت حقيقة عرفية، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي، ولولا ذلك لقيل : يستنبطون منه، كما هو ظاهر، أوْ هو على نزع الخافض.
وإذا جريتَ على احتمال كون ( يستنبطون ) بمعنى يختلقون كما تقدّم كانت ﴿ يستنبطونه ﴾ تبعية، بأن شبّه الخبر المختلَق بالماء المحْفور عنه، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون، وتعدّى الفعل إلى ضمير الخبرلأنّه المستخرَج.
والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم : يُصْدر ويُورِد، وقولهم ضَرَبَ أخماساً لأسْدَاسسٍ، وقولهم : يَنْزِع إلى كذا، وقوله تعالى :﴿ فإنّ للذين ظلموا ذَنُوباً مثلَ ذَنوب أصحابهم ﴾ [ الذاريات : ٥٩ ]، وقال عَبدة بن الطبيب :
فحقّ لشاس من نداك ذَنوب...
ومنه قولهم : تَساجل القوم، أصله من السَّجْل، وهو الدلو.
وقال قيس بن الخطيم :
إذَا ما اصطبَحْتُ أرْبعاً خطّ مِئْزَري...
وأتْبَعْتُ دلوي في السماح رِشاءها
فذكَر الدلوَ والرشاء.
وقال النابغة :
خَطاطِيف حَجْنٍ في حِبالٍ متينَة...
تَمُدّ بها أيْدٍ إليكَ نَوازِع
وقال :
ولولا أبُو الشقراء مَا زال ماتح...
يُعالج خَطَّافاً بإحدى الجرائر
وقالوا أيضاً :"انتهز الفرصة"، والفرصة نوبة الشرب، وقالوا : صدر الوم عن رأي فلان ووَردوا على رأيه. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٤ صـ ٢٠٣﴾

فصل


قال الفخر :
في قوله :﴿الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ قولان :
الأول : أنهم هم أولئك المنافقون المذيعون، والتقدير : ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر، وطلبوا معرفة الحال فيه من جهتهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم، وهم هؤلاء المنافقون المذيعون منهم، أي من جانب الرسول ومن جانب أولي الأمر.


الصفحة التالية
Icon