فعند هذا اختلف المفسرون وذكروا وجوها، قال بعضهم : هذا الاستثناء راجع إلى قوله :﴿أَذَاعُواْ﴾ وقال قوم : راجع إلى قوله :﴿لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ﴾ وقال آخرون : إنه راجع إلى قوله :﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ﴾.
واعلم أن الوجوه لا يمكن أن تزيد على هذه الثلاثة لأن الآية متضمنة للإخبار عن هذه الأحكام الثلاثة، ويصح صرف الاستثناء إلى كل واحد منها، فثبت أن كل واحد من هذه الأقوال محتمل.
أما القول الأول : فالتقدير : وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا، فأخرج تعالى بعض المنافقين عن هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله :﴿بَيَّتَ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ غَيْرَ الذى تَقُولُ﴾ [ النساء : ٨١ ]
والقول الثاني : الاستنثاء عائد إلى قوله :﴿لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا القليل : قال الفراء والمبرد : القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه، والأكثر يجهله، وصرف الاستثناء إلى ما ذكره يقتضي ضد ذلك.
قال الزجاج : هذا غلط لأنه ليس المراد من هذا الاستثناء شيئا يستخرجه بنظر دقيق وفكر غامض، إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه، إنما البالغ في البلادة والجهالة هو الذي لا يعرفه ويمكن أن يقال : كلام الزجاج إنما يصح لو حملنا الاستنباط على مجرد تعرف الاخبار والاراجيف، أما إذا حملناه على الاستنباط في جميع الأحكام كما صححنا ذلك بالدليل كان الحق كما ذكره الفراء والمبرد.
القول الثالث : أنه متعلق بقوله :﴿وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ﴾ ومعلوم أن صرف الاستثناء إلى ما يليه ويتصل به أولى من صرفه إلى الشيء البعيد عنه.


الصفحة التالية
Icon