وهكذا نزلت هذه النصوص ؛ تسمي هؤلاء القاعدين محافظة على أموالهم ومصالحهم، أو إشفاقاً من مشاق الهجرة ومتاعب الطريق.. حتى يحين أجلهم.. تسميهم :﴿ ظالمي أنفسهم ﴾.. بما أنهم حرموها الحياة في دار الإسلام، تلك الحياة الرفيعة النظيفة الكريمة الحرة الطليقة. وألزموها الحياة في دار الكفر تلك الحياة الذليلة الخانسة الضعيفة المضطهدة، وتوعدهم ﴿ جهنم وساءت مصيراً ﴾.. مما يدل على أنها تعني الذين فتنوا عن دينهم بالفعل هناك!
ولكن التعبير القرآني - على أسلوب القرآن - يعبر في صورة، ويصور في مشهد حي نابض بالحركة والحوار :
﴿ إن الذين توفاهم الملائكة.. ظالمي أنفسهم.. قالوا : فيم كنتم؟ قالوا : كنا مستضعفين في الأرض! قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة، فتهاجروا فيها؟! ﴾..
إن القرآن يعالج نفوساً بشرية ؛ ويهدف الى استجاشة عناصر الخير والمروءة والعزة فيها ؛ وإلى مطاردة عوامل الضعف والشح والحرص والثقلة.. لذلك يرسم هذا المشهد.. إنه يصور حقيقة. ولكنه يستخدم هذه الحقيقة في موضعها أحسن استخدام، في علاج النفس البشرية..
ومشهد الاحتضار بذاته مشهد ترتجف له النفس البشرية، وتتحفز لتصور ما فيه. وإظهار الملائكة في المشهد يزيد النفس ارتجافاً وتحفزاً وحساسية.
وهم - القاعدون - ظلموا أنفسهم. وقد حضرت الملائكة لتتوفاهم وهذا حالهم.. ظالمي أنفسهم. وهذا وحده كفيل بتحريك النفس وارتجافها. إذ يكفي أن يتصور المرء نفسه والملائكة تتوفاه وهو ظالم لنفسه ؛ وليس أمامه من فرصة أخرى لإنصاف نفسه، فهذه هي اللحظة الأخيرة.
ولكن الملائكة لا يتوفونهم - ظالمي أنفسهم - في صمت. بل يقلبون ماضيهم، ويستنكرون أمرهم! ويسألونهم : فيم أضاعوا أيامهم ولياليهم؟ وماذا كان شغلهم وهمهم في الدنيا :
﴿ قالوا : فيم كنتم؟ ﴾..
فإن ما كانوا فيه ضياع في ضياع ؛ كأن لم يكن لهم شغل إلا هذا الضياع!


الصفحة التالية
Icon