لما له من الكرامة، ولما ابتدأ سبحانه بوصفه الأشهر، وكان قد يوصف به غيره بيّنه بقوله :﴿عيسى﴾ ثم أخبر عنه بقوله :﴿ابن مريم﴾ أتصل بها اتصال الأولاد بأمهاتهم، لا يصح نسبته للبنوة إلى غيرها، وليس هو الله ولا ابن الله - كما زعم النصارى ﴿رسول الله﴾ لا أنه لغير رشدة - كما كذب اليهود.
ولما كان تكّونه بكلمة الله من غير واسطة ذكر، جعل نفس الكلمة فقال :﴿وكلمته﴾ لأن كان بها من غير تسبب عن أب بل، كوناً خارقاً للعوائد ﴿ألقاها﴾ أي تشريفاً بقوله :﴿وروح﴾ أي عظيمة نفخها فيما تكّون في مريم من الجسد الذي قام بالكلمة، لا بمادة من ذكر، والروح هو النفخ في لسان العرب، وهو كالريح إلا أنه أقوى، بما له من الواو والحركة المجانسة لها، ولغلبة الروح عليه كان يحيي الموتى إذا اراد، وأكمل شرفه بقوله :﴿منه﴾ أي وإن كان جبرئيل هو النافخ، وإذا وصف شيء بغاية الطهارة قيل : روح، لا سيما إن كان به حياة في دين أو بدن.
ولما أفصح بهذا الحق سبب عنه قوله :﴿فآمنوا بالله﴾ أي الذي لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى شيء ﴿ورسله﴾ أي عيسى عليه الصلاة والسلام وغيره عامة، من غير إفراط ولا تفريط، ولا تؤمنوا ببعض ولا تكفروا ببعض، فإن ذلك حقاً هو الكفر الكامل - كما مر.
ولما أمرهم بإثبات الحق نهاهم عن التلبس بالباطل فقال :﴿ولا تقولوا﴾ أي في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿ثلاثة﴾ أي استمروا أيها اليهود على التكذيب بما يقول فيه النصارى، ولا تقولوا : إنه متولد من أب وأم لغير رشدة - المقتضي للتثليث، وارجعوا أيها النصارى عن التثليث الذي تريدون به أن الإله بثلاثة وإن ضممتم إليه أنه إله واحد، لأن ذلك بديهي البطلان، فالحاصل أنه نهى كلاً عن التثليث وإن كان المرادان به مختلِفَين، وإنما العدل فيه أنه ابن مريم، فهما اثنان لا غير، وهو عبدالله ورسوله وكلمته وروح منه.


الصفحة التالية
Icon