وقد كان بعض المعاصرين يفصل بين التفضيلين، وادعى أنه لا يلزم منه، على التفصيل، تفضيل على الجملة، ولم يثبت عنه هذا القول، ولو قاله أحد فهو مردود بوجه لطيف، وهو : أن التفضيل المراد، جل أماراته رفع درجة الأفضل في الجنة، والأحاديث متوافرة بذلك، وحينئذ لا يخلوا إما أن ترفع درجة واحد من المفضولين على من اتفق على أنه أفضل من كل واحد منهم، أو لا ترفع درجة أحد منهم عليه، لا سبيل إلى الأول، لأنه يلزم منه رفع المفضول على الأفضل، فتعين الثاني وهو ارتفاع درجة الأفضل على درجات المجموع، ضرورة، فيلزم ثبوت أفضليته على المجموع من ثبوت أفضليته على كل واحد منهم، قطعاً، الثالث : أنه عطف الملائكة على المسيح بالواو، وهي لا تقتضي ترتيباً، وأما الاستشهاد بالمثال المذكور على أن الثاني أبداً يكون أعلى رتبة، فمعارض بأمثلة لا تقتضي ذلك، كقول القائل : ما عابني على هذا الأمر زيد ولا عَمْرو، قلت : وكقولك لا تؤذ مسلماً ولا ذمياً، فإن هذا الترتيب وجه الكلام، والثاني أدنى وأخفض درجة، ولو ذهبت تعكس هذا، فقلت لا تؤذ ذمياً ولا مسلماً، ليجعل الأعلى ثانياً، لخرجت عن حد الكلام وقانون البلاغة، وهذا المثال بين ما يورد في نقض القانون المقرر، ولكن الحق أولى من المراء، وليس بين المثالين تعارض، ونحن نمهد تمهيداً يرفع اللبس ويكشف الغطاء، فنقول : النكتة في الترتيب في المثالين الموهوم تعارضهما واحدة، وهي توجب في مواضع تقديم الأعلى، وفي مواضع تأخيره، وتلك النكتة مقتضى البلاغة التنائي عن التكرار والسلامة عن النزول، فإذا اعتمدت ذلك فمهما أدى إلى أن يكون آخر كلامك نزولاً بالنسبة إلى أوله، أو يكون الآخر مندرجاً في الأول، قد أفاده، وأنت مستغن عن الآخر فأعدل عن ذلك إلى ما يكون ترقياً من الأدنى إلى الأعلى، واستئنافاً لفائدة لم يشتمل عليها الأول، مثاله الآية المذكورة، فإنك لو ذهبت فيها إلى


الصفحة التالية
Icon