فإن قلت : ولا مسلماً، لم تجدد له فائدة، ولم تعلمه غير ما علمه أولاً، فقد علمت أنها نكتة واحدة، توجب أحياناً تقديم الأعلى، وأحياناً تأخيره، ولا يميز لك ذلك إلا السياق، وما أشك أن سياق الآية يقتضي تقديم الأدنى وتأخير الأعلى، ومن البلاغة المرتبة على هذه النكتة قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَقُل لّهُمَآ أُفّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ]، استغناء عن نهيه عن ضربهما فما فوقه، بتقدير الأدنى، ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن تريد نهياً عن أعلى من التأفيف والإنهار ( كذا )، لأنه مستغني عنه، وما يحتاج المتدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهداً سواها، ﴿ مّا فَرّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍٍ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] ولما اقتضى الإنصاف تسليم مقتضى الآية لتفضيل الملائكة، وكانت الأدلة على تفضيل الأنبياء عتيدة عند المعتقد لذلك، جمع بين الآية وتلك الأدلة بحمل التفضيل في الآية على غير محل الخلاف، وذاك أن تفضيل الملائكة في القوة وشدة البطش وسعة التمكن والاقتدار، قال : وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية، لأن المقصود الرد على النصارى في اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام، مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، وصدرت على يديه الخوارق، لا يستنكف عن عبادة الله، بل من هو أكثر خوارق وأظهر آثاراً، كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام، وقد بلغ من قوته وإقدار الله له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه، فقلب عاليها سافلها، فيكون تفضيل الملائكة، إذاً، بهذا الاعتبار، لا خلاف أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر، وإنما الخلاف في التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات في دار الجزاء، وليس في الآية عليه دليل، ولما كان أكثر ما لبس على النصارى في ألوهية عيسى كونه مخلوقاً، أي : موجوداً من غير أب، أنبأنا الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب، لا يستنكف من