وأما الرّأس فهو عبارة عن الجملة التي يعلمها الناس ضرورة ومنها الوجه، فلما ذَكَره الله عز وجل في الوضوء وعيّن الوجه للغسل بقي باقيه للمسح، ولو لم يذكر الغسل للزِم مسح جميعه، ما عليه شعر من الرأس وما فيه العينان والأنف والفم ؛ وقد أشار مالك في وجوب مسح الرأس إلى ما ذكرناه ؛ فإنه سُئل عن الذي يترك بعض رأسه في الوضوء فقال : أرأيت إن ترك غَسْل بعض وجهه أكان يُجزئه؟ ووضَحَ بهذا الذي ذكرناه أن الأُذنين من الرأس، وأن حكمهما حكم الرأس خلافاً للزهريّ حيث قال : هما من الوجه يغسلان معه، وخلافاً للشعبيّ حيث قال : ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرّأس ؛ وهو قول الحسن وإسحاق، وحكاه ابن أبي هريرة عن الشافعيّ، وسيأتي بيان حجتهما ؛ وإنما سمّي الرأس رأساً لعلوّه ونبات الشعر فيه، ومنه رأس الجبل ؛ وإنما قلنا إن الرأس اسم لجملة أعضاء لقول الشاعر :
إذا احتملوا رأسي وفي الرأس أَكْثَرى...
وغُودِر عند المُلْتَقَى ثَمَّ سَائِرِي
الثامنة واختلف العلماء في تقدير مسحه على أحد عشر قولاً ؛ ثلاثة لأبي حنيفة، وقولان للشافعي، وستة أقوال لعلمائنا ؛ والصحيح منها واحد وهو وجوب التعميم لما ذكرناه.
وأجمع العلماء على أن من مَسَح رأسه كله فقد أحسن وفعل ما يلزمه ؛ والباء مؤكّدة زائدة ليست للتبعيض : والمعنى وامسحوا رؤوسكم.
وقيل : دخولها هنا كدخولها في التيمّم في قوله :﴿ فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ ﴾ فلو كان معناها التبعيض لأفادته في ذلك الموضع، وهذا قاطع.
وقيل : إنما دخلت لتُفيد معنى بديعاً وهو أن الغسل لغة يقتضي مغسولاً به، والمسح لغة لا يقتضي ممسوحاً به ؛ فلو قال : وامسحوا رؤوسكم لأجزأ المسح باليد إمراراً من غير شيء على الرّأس ؛ فدخلت الباء لتفيد ممسوحاً به وهو الماء، فكأنه قال : وامسحوا برؤوسكم الماء ؛ وذلك فصيح في اللغة على وجهين ؛ إما على القلب كما أنشد سيبويه :
كنَوَاحِ رِيش حَمَامة بَخْدِيَّة...