هذا أيضاً متصل بما قبله، والمراد حثهم على الانقياد لتكاليف الله تعالى.
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها محصورة في نوعين : التعظيم لأمر الله تعالى، والشفقة على خلق الله، فقوله ﴿كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ﴾ إشارة إلى النوع الأول وهو التعظيم لأمر الله، ومعنى القيام لله هو أن يقوم لله بالحق في كل ما يلزمه القيام به من إظهار العبودية وتعظيم الربوبية، وقوله ﴿شُهَدَاء بالقسط﴾ إشارة إلى الشفقة على خلق الله وفيه قولان : الأول : قال عطاء : يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودك وقرابتك، ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك.
الثاني : قال الزجاج : المعنى تبينون عن دين الله، لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١١ صـ ١٤٣﴾
وقال القرطبى :
قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ ﴾ الآية تقدّم معناها في "النساء".
والمعنى : أتممت عليكم نعمتي فكونوا قوّامين لله، أي لأجل ثواب الله ؛ فقوموا بحقه، واشهدوا بالحق من غير ميل إلى أقاربكم، وحَيْف على أعدائكم. أ هـ ﴿تفسير القرطبى حـ ٦ صـ ﴾
وقال الآلوسى :
﴿ يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ ﴾ شروع في بيان الشرائع المتعلقة لما يجري بينهم وبين غيرهم إثر ( بيان ) ما يتعلق بأنفسهم ﴿ كُونُواْ قَوَّامِينَ لله ﴾ أي كثيري القيام له بحقوقه اللازمة، وقيل : أي ليكن من عادتكم القيام بالحق في أنفسكم بالعمل الصالح، وفي غيركم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ابتغاء مرضاة الله تعالى ﴿ شُهَدَاء بالقسط ﴾ أي بالعدل، وقيل : دعاة لله تعالى مبينين عن دينه بالحجج الحقة. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ٦ صـ ﴾
وقال ابن عاشور :
لمّا ذكّرهم بالنَعمة عقّب ذلك بطلب الشكر للمنعم والطاعة له، فأقبل على خطابهم بوصف الإيمان الذي هو منبع النعم الحاصلة لهم.
فالجملة استئناف نشأ عن ترقّب السامعين بعد تعداد النعم.