فإن قيل : كيف ذكر سبحانه ﴿ أَقْرَبُ للتقوى ﴾، وأفعل إنما يقال في شيئين اشتركا في أمر واحد لأحدهما مزية وقد علمنا أن لا شيء من التقوى ومن فعل الخير إلا وهو من العدالة؟
قيل : إن أفعل وإن كان كما ذكرت فقد يستعمل على تقدير بناء الكلام على اعتقاد المخاطب في الشيء في نفسه قطعاً لكلامه وإظهاراً لتبكيته فيقال لمن اعتقد مثلاً في زيد فضلاً وإن لم يكن فيه فضل ولكن لا يمكنه أن ينكر أن عمراً أفضل منه : اخدم عمراً فهو أفضل من زيد، وعلى ذلك جاء قوله تعالى :﴿ آلله خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ النمل : ٥٩ ] وقد علم أن لا خير فيما يشركون.
والجملة في موضع التعليل للأمر بالعدل، وصرح لهم به تأكيداً وتشديداً، وأمر سبحانه بالتقوى بقوله جل وعلا :﴿ واتقوا الله ﴾ إثر ما بين أن العدل أقرب لها اعتناءاً بشأنها وتنبيهاً على أنها ملاك الأمر كله ﴿ إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ من الأعمال فيجازيكم بذلك، وقد تقدم نظير هذه الآية في النساء ( ١٣٥ )، ولم يكتف بذلك لمزيد الاهتمام بالعدل والمبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ، وقيل : لاختلاف السبب، فإن الأولى نزلت في المشركين وهذه في اليهود، وذكر بعض المحققين وجهاً لتقديم القسط هناك وتأخيره هنا، وهو أن آية النساء جيء بها في معرض الإقرار على نفسه ووالديه وأقاربه فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، والتي هنا جيء بها في معرض ترك العداوة فبدأ فيها بالقيام لله تعالى لأنه أردع للمؤمنين، ثم ثنى بالشهادة بالعدل فجىء في كل معرض بما يناسبه. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ٦ صـ ﴾
قال ابن عاشور :
والضمير في قوله :﴿ هو أقرب ﴾ عائد إلى العدل المفهوم من ﴿ تعدلوا ﴾، لأنّ عود الضمير يُكتفى فيه بكلّ ما يفهم حتّى قد يعودُ على ما لا ذكر له، نحو ﴿ حتّى توارتْ بالحجاب ﴾ [ ص : ٣٢ ].
على أنّ العرب تجعل الفعل بمعنى المصدر في مراتب:


الصفحة التالية
Icon