وقال أبو السعود :
﴿ يَا أَهْلِ الكتاب ﴾ التفاتٌ إلى خطاب الفريقين على أن الكتاب جنسٌ شاملٌ للتوراة والإنجيل إثرَ بيانِ أحوالهما من الخيانة وغيرها من فنون القبائح ودعوةٌ لهم إلى الإيمان برسول الله ﷺ والقرآن، وإيرادُهم بعنوان أهلية الكتاب لانطواء الكلامِ المصدَّر به على ما يتعلق بالكتاب وللمبالغة في التشنيع، فإن أهلية الكتاب من موجباتِ مراعاته والعمل بمقتضاه وبيان ما فيه من الأحكام، وقد فعلوا من الكَتم والتحريف ما فعلوا وهم يعلمون ﴿ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا ﴾ الإضافة للتشريف، والإيذانِ بوجوب اتباعه وقوله تعالى :﴿ يُبَيّنُ لَكُمْ ﴾ حال من رسولنا، وإيثارُ الجملة الفعلية على غيرها للدَلالة على تجدّد البيان، أي قد جاءكم رسولُنا حال كونه مبيناً لكم على التدريج حسبما تقتضيه المصلحة ﴿ كَثِيراً مّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب ﴾ أي التوراةِ والإنجيل كبِعثةِ محمد عليه الصلاة والسلام، وآيةِ الرجم في التوراة وبشارةِ عيسى بأحمدَ عليهما السلام في الإنجيل، وتأخيرُ ( كثيراً ) عن الجار والمجرور لما مر مراراً من إظهار العناية بالمُقدَّم، لما فيه من تعجيل المَسَرَّة والتشويق إلى المؤخر لأن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر لا سيما مع الإشعار بكونه من منافع المخاطَب تبقَى النفسُ مترقبة إلى وروده، فيتمكن عندها إذا ورد فضلُ تمكنٍ، ولأن في المؤخَّر ضربَ تفصيل رمبا يُخِلُّ تقديمُه بتجاذب أطرافِ النظم الكريم، فإن ( مما ) متعلقٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لكثيراً، و( ما ) موصولة اسمية وما بعدها صلتُها، والعائدُ إليها محذوف، و( من الكتاب ) متعلق بمحذوف هو حال من العائد المحذوف، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرارهم على الكتم والإخفاء، أي يبين لكم كثيراً من الذي تخفونه على الاستمرار حال كونه من الكتاب الذي أنتم أهله والمتمسكون به ﴿ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ ﴾ أي ولا يُظهر كثيراً


الصفحة التالية
Icon