ومثل هذا التقدير كثير في حذف حرف الجرّ قبل ( أنْ ) حذفاً مطّرداً، والمقام يعيّن الحرف المحذوف ؛ فالمحذوف هنا حرف اللام.
ويُشكل معنى الآية بأنّ علّة إرسال الرسول إليهم هي انتفاءُ أن يقولوا ﴿ ما جاءنا من بشير ولا نذير ﴾ لا إثباتُه كما هو واضح، فلماذا لم يُقَل : أن لا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذر، وقد جاء في القرآن نظائر لهذه الآية، وفي شعر العرب كقول عمرو بن كلثوم:
فعجّلنا القِرى أنْ تَشْتُمُونا...
أراد أن لا تشتمونا.
فاختلف النحْويون في تقدير ما به يتقوّم المعنى في الآيات وغيرها : فذهب البصريون إلى تقدير اسم يناسب أن يكون مفعولاً لأجله لفعل ﴿ جاءكم ﴾، وقدّروه :( كراهية أن تقولوا )، وعليه درج صاحب "الكشّاف" ومتابعوه من جمهور المفسّرين ؛ وذهب الكوفيون إلى تقدير حرف نفي محذوف بعد ( أنْ )، والتقدير : أنْ لا تقولوا، ودرج عليه بعض المفسّرين مثل البَغوي ؛ فيكون من إيجاز الحذف اعتماداً على قرينة السياق والمقام.
وزعم ابن هشام في "مغني اللبيب" أنّه تعسّف، وذكر أنّ بعض النحويين زعم أنّ من معاني ( أنْ ) أن تكون بمعنى ( لَئِلاّ ).
وعندي : أنّ الذي ألجأ النحويين والمفسّرين لهذا التأويل هو البناء على أنّ ( أنْ ) تُخلِّصُ المضارع للاستقبال فتقتضي أنّ قول أهل الكتاب : ما جاءنا بشير ولا نذير غير حاصل في حال نزول الآية، وأنه مقدّر حصوله في المستقبل.
ويظهر أنّ إفادة ( أنْ ) تخليص المضارع للمستقبل إفادة أكْثريَّة وليست بمطّردة، وقد ذهب إلى ذلك أبو حيّان وذكر أنّ أبا بكر الباقلاني ذهب إليه، بل قد تفيد ( أن ) مجرد المصدرية كقوله تعالى :﴿ وأن تصوموا خير لكم ﴾ [ البقرة : ١٨٣ ]، وقول امرىء القيس:
فإمَّا تَرَيْني لا أغمّض ساعة...
مِن الليل إلاّ أن أكبّ وأنْعَسَا
فإنّه لا يريد أنّه ينعس في المستقبل.


الصفحة التالية