قال الحكيم ابن خلدون في " مقدمة العبر " في الفصل ١٩ تحت العنوان المذكور : إن المذلة والانقياد كاسران لسورة العصبية وشدّتها. فإنَّ انقيادهم ومذلتهم دليل على فقدانها، فما رئموا ( ألفوا ) للمذلّة حتى عجزوا عن المدافعة، ومن عجز عن المدافعة، فأولى أن يكون عاجزاً عن المقاومة والمطالبة، واعتبر ذلك في بني إسرائيل لما دعاهم موسى عليه السلام إلى ملك الشام، وأخبرهم أن الله قد كتب لهم ملكها، كيف عجزوا عن ذلك، قالوا :﴿ إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا ﴾ [ المائدة : ٢٢ ]. أي : يخرجهم الله منها بضرب من قدرته غير عصبيتنا، وتكون من معجزاتك يا موسى، ولما عزم عليهم لجّوا وارتكبوا العصيان وقالوا له :﴿ فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا ﴾ [ المائدة : ٢٤ ] وما ذلك إلاَّ لما آنسوا من أنفسهم من العجز عن المقاومة والمطالبة، كما تقتضيه الآية وما يؤثر في تفسيرها، وذلك بما حصل فيهم من خلق الانقياد، وما رئموا من الذلّ للقبط أحقاباً حتى ذهبت العصبية منهم جملة. مع أنهم لم يؤمنوا حقّ الإيمان بما أخبرهم به موسى، من أن الشام لهم، وأن العمالقة الذين كانوا بأريحاء فريستهم، بحكم من الله قدره لهم. فأقصروا عن ذلك وعجزوا، تعويلاً على ما علموا من أنفسهم من العجز عن المطالبة، لما حصل لهم من خلق المذلة. وطعنوا فيما أخبرهم به نبيّهم من ذلك وما أمرهم به. فعاقبهم الله بالتيه. وهو أنّهم تاهوا في قَفْر من الأرض ما بين الشام ومصر أربعين سنةً. لم يأووا فيها لعمران، ولا نزلوا مصراً، ولا خالطوا بشراً، كما قصّه القرآن، لغلظة العمالقة بالشام والقبط بمصر عليهم، لعجزهم عن مقاومتهم كما زعموه. ويظهر من مساق الآية ومفهومها : أن حكمة ذلك التيه مقصودة. وهي فناء الجيل الذين خرجوا من قبضة الذل والقهر والقوة وتخلّقوا به. وأفسدوا من عصبيتهم، حتى