وقوله :﴿ فطوّعت له نفسه قتل أخيه ﴾ دلّت الفاء على التفريع والتعقيب، ودلّ ( طَوّع ) على حدوث تردّد في نفس قابيل ومغالبة بين دافع الحَسد ودافع الخشية، فعلمنا أنّ المفرّع عنه محذوف، تقديره : فتردّد مَليّاً، أو فترصّد فُرصاً فَطوّعت له نفسه.
فقد قيل : إنّه بقي زماناً يتربّص بأخيه، ( وطوّع ) معناه جعله طائعاً، أي مكَّنه من المطوّع.
والطوع والطواعية : ضدّ الإكراه، والتطويع : محاولة الطوع.
شُبّه قتل أخيه بشيء متعاص عن قابيل ولا يطيعه بسبب معارضة التعقّل والخشيةِ.
وشبّهت داعية القتل في نفس قابيل بشخص يعينه ويذلّل له القتل المتعاصي، فكان ( طوّعت ) استعارة تمثيلية، والمعنى الحاصل من هذا التمثيل أنّ نفس قابيل سَوّلت له قتل أخيه بعد ممانعة.
وقد سُلك في قوله :﴿ فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله ﴾ مسلكُ الإطناب، وكان مقتضى الإيجاز أن يحذف ﴿ فطوّعت له نفسه قتلَ أخيه ﴾ ويقتصر على قوله ﴿ فقتَلَه ﴾ لكن عدل عن ذلك لقصد تفظيع حالة القاتل في تصوير خواطره الشرّيرة وقساوة قلبه، إذ حدّثه بقتل من كان شأنه الرحمة به والرفق، فلم يكن ذلك إطناباً.
ومعنى ﴿ فأصبح من الخاسرين ﴾ صار، ويكون المراد بالخسارة هنا خسارة الآخرة، أي صار بذلك القتل ممّن خسر الآخرة، ويجوز إبقاء ( أصبح ) على ظاهرها، أي غدا خاسراً في الدّنيا، والمراد بالخسارة ما يبدو على الجاني من الاضطراب وسوء الحالة وخيبة الرجاءَ، فتفيد أنّ القتل وقع في الصّباح. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٥ صـ ﴾


الصفحة التالية
Icon