﴿ فأصبح من الخاسرين ﴾..
خسر نفسه فأوردها موارد الهلاك. وخسر أخاه ففقد الناصر والرفيق. وخسر دنياه فما تهنأ للقاتل حياة. وخسر آخرته فباء بأثمه الأول وإثمه الأخير..
ومثلت له سوأة الجريمة في صورتها الحسية.
صورة الجثة التي فارفتها الحياة وباتت لحماً يسري فيه العفن، فهو سوأة لا تطيقها النفوس.
وشاءت حكمة الله أن تقفه أمام عجزه - وهو الباطش القاتل الفاتك - عن أن يواري سوأة أخيه. عجزه عن أن يكون كالغراب في أمة الطير :
﴿ فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه. قال : يا ويلتا! أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي؟ فأصبح من النادمين ﴾..
وتقول بعض الروايات : إن الغراب قتل غراباً آخر، أو وجد جثة غراب أو جاء ومعه جثة غراب، فجعل يحفر في الأرض، ثم واراه وأهال عليه التراب.. فقال القاتل قولته. وفعل مثلما رأى الغراب يفعل..
وظاهر أن القاتل لم يكن قد رأى من قبل ميتاً يدفن - وإلا لفعل - وقد يكون ذلك لأن هذا كان أول ميت في الأرض من أبناء آدم. أو لأن هذا القاتل كان حدثاً ولم ير من يدفن ميتاً.. والاحتمالان قائمان. وظاهر كذلك أن ندمه لم يكن ندم التوبة - وإلا لقبل الله توبته - وإنما كان الندم الناشىء من عدم جدوى فعلته، وما أعقبته له من تعب وعناء وقلق.
كما أن دفن الغراب لأخيه الغراب، قد يكون من عادات الغربان كما يقول بعض الناس. وقد يكون حدثاً خارقاً أجراه الله.. وهذه كتلك سواء.. فالذي يودع الأحياء غرائزهم هو الذي يجري أي حدث على يد أي حي.. هذا من قدرته، وهذا من قدرته على السواء..
وهنا يلتقط السياق الآثار العميقة التي تتركها في النفس رواية النبأ بهذا التسلسل، ليجعل منها ركيزة شعورية للتشريع الذي فرض لتلافي الجريمة في نفس المجرم ؛ أو للقصاص العادل إن هو أقدم عليها بعد أن يعلم آلام القصاص التي تنتظره :