ولما كان سبب إسلام أمرهم بالحفظ، لا كونه من الله بلا واسطة، بني للمفعول قوله :﴿استُحفظوا﴾ أي الأنبياء ومن بعدهم ﴿من كتاب الله﴾ أي بسبب ما طلبوا منهم وأمروا به من الحفظ لكتاب الذي له جميع صفات الكمال الذي هو صفته، فعظمته من عظمته، وحفظه : دراسته والعمل بما فيه ﴿وكانوا﴾ أي وبما كانوا ﴿عليه شهداء﴾ أي رقباء حاضرين لا يغيبون عنه ولا يتركون مراعاته أصلاً، فالآية - كما ترى - من فن الاحتباك : ترك أولاً " بما استحفظوا " لدلالة ما ذكر هنا عليه، وترك ذكر الإسلام هنا لدلالة ذكره أولاً عليه، وإنما خص الأول بذكر الإسلام لأن الأنبياء أحق به، وهو داع إلى الحفظ قطعاً، وخص الثاني بالاستحفاظ لأن الأتباع أولى به، وهو دال على الإسلام.
ولما كان هذا كله ذماً لليهود بما تركوا من كتابهم، ومدحاً لمن راعاه منهم، وكان ذلك الترك إما لرجاء أو خوف، قال مخاطباً لهذه الأمة كلها طائعها وعاصيها، وحذراً لها من مثل حالهم ومرغباً في مثل حال الأنبياء والتابعين لهم بإحسان، مسبباً عن ذلك :﴿فلا تخشوا الناس﴾ أي في العمل بحكم من أحكام الله ﴿واخشون﴾ أي فإن ذلك حامل لكم على العدل والإحسان، فمن كان منكم مسلماً طائعاً فليزدد طاعة، ومن لم يكن كذلك فليبادر بالانقياد والطاعة، وهذا شامل لليهود وغيرهم.
ولما قدم الخوف لأنه أقوى تأثيراً أتبعه الطمع فقال :﴿ولا تشتروا﴾ ولما كان الاشتراء معناه اللجاجة في أخذ شيء بثمن، وكان المثمن أشرف من الثمن من حيث إنه المرغوب فيه، جعل الآيات مثمناً وإن اقترنت بالباء، حتى يفيد الكلام التعجب من الرغبة عنها، وأنها لا يصح كونها ثمناً فقال :﴿بآياتي ثمناً قليلاً﴾ أي من الرشى وغيرها لتبدلوها كما بدل أهل الكتاب.


الصفحة التالية
Icon