ولما بين المسارعين بالمنافقين، عطف عليهم قسماً آخر هم أشد الناس مؤاخاة لهم فقال :﴿ومن الذين هادوا﴾ أي الذين عرفت قلوبهم وكفرت ألسنتهم تبعاً لمخالفة قلوبهم لما تعرف عناداً وطغياناً، ثم أخبر عنهم بقوله :﴿سمّاعون﴾ أي متقبلون غاية التقبل بغاية الرغبة ﴿للكذب﴾ أي من قوم من المنافقين يأتونك فينقلون عنك الكذب ﴿سمّاعون لقوم آخرين﴾ أي الصدق، ثم وصفهم بقوله :﴿لم يأتوك﴾ أي لعلة، وذكر الضمير لإرادة الكلام، لأن المقصود البغض على نفاقهم ﴿يحرفون الكلم﴾ أي الذي يسمعونه عنك على وجهة فيبالغون في تغييره وإمالته بعد أن يقيسوا المعنيين : المغير والمغير إليه، واللفظين فلا يبعدوا به، بل يأخذون بالكلم عن حده وطرفه إلى حد آخر قريب منه جداً، ولذلك، أثبت الجار فقال :﴿من بعد﴾ أي يثبتون الإمالة من مكان قريب من ﴿مواضعه﴾ أي النازلة عن رتبته بأن يتأولوه على غير تأويله، أو يثبتوا ألفاظاً غير ألفاظه قريبة منها فلا يبعد منها المعنى جداً وهذا أدق مكراً مما في النساء وهو من الحرف وهو الحد والطرف، وانحرف عن الشيء : مال عنه، قال الصغاني : وتحريف الكلام عن مواضعه : تغييره، وقال أبو عبد الله القزاز : والتحريف التفعيل، من : انحرف عن الشيء - إذا مال، فمعنى حرفت الكلام : أزلته عن حقيقة ما كان عليه في المعنى، وأبقيت له شبه اللفظ، ومنه قوله تعالى ﴿يحرفون الكلم﴾، وذلك أن اليهود كانت تغير معاني التوراة بالأشباه، وفي الحديث " يسلط عليهم طاعون يحرف القلوب " أي يغيرها عن التوكل ويدعوهم إلى الانتقال عن تلك البلاد، وحكي : حرفته عن جهته - أي بالتخفيف - مثل : حرّفته، والمحارفة : المقايسة، من المحراف وهو الميل الذي يقاس به الجراح - انتهى.
فالآية من الاحتباك : حذف منها أولاً الإتيان وأثبت عدمه ثانياً للدلالة عليه، وحذف منها ثانياً الصدق ودل عليه بإثبات ضده - الكذب - في الأولى.


الصفحة التالية