الأول : قال مقاتل : كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام، فلما بعث تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة : بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، وكتابنا واحد، فإن قتل بنو النضير منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر، وإن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا مائة وأربعين وسقاً من تمر، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فقال عليه السلام :" فإني أحكم أن دم القرظي وفاء من دم النضري، ودم النضري وفاء من دم القرظي، ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل، ولا جراحة "، فغضب بنو النضير وقالوا : لا نرضى بحكمك فإنك عدو لنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ﴿أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ﴾ يعني حكمهم الأول.
وقيل : إنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به، فمنعهم الله تعالى منه بهذه الآية، الثاني : أن المراد بهذه الآية أن يكون تعييراً لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم مع أنهم يبغون حكم الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى.
ثم قال تعالى :﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ اللام في قوله ﴿لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ للبيان كاللام في ﴿هَيْتَ لَكَ﴾ [ يوسف : ٢٣ ] أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً، ولا أحسن منه بياناً. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٤﴾
وقال القرطبى :
قوله تعالى ﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾
فيه ثلاث مسائل :
الأولى قوله تعالى :﴿ أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ ﴾ "أَفَحُكْمَ" نصب ب "يَبْغُونَ" والمعنى : أن الجاهلية كانوا يجعلون حكم الشريف خلاف حكم الوضيع ؛ كما تقدم في غير موضع، وكانت اليهود تقيم الحدود على الضعفاء الفقراء، ولا يقيمونها على الأقوياء الأغنياء ؛ فضارعوا الجاهلية في هذا الفعل.