ولما كان كل من كتابيهم من عند الله، كان كأنه قيل : كيف يكون الحكم بكتابهم الذي يصدقه كتابنا انحرافاً عن الحق؟ علل ذلك دالاً على النسخ بقوله :﴿لكل﴾ أي لكل واحد ﴿جعلنا﴾ أي بعظمتنا التي نفعل بها ما نشاء من نسخ وغيره، ثم خصص الإبهام بقوله :﴿منكم﴾ أي يا أهل الكتب ﴿شرعة﴾ أي ديناً موصلاً إلى الحياة الأبدية، كما أن الشرعة موصلة إلى الماء الذي به الحياة الدنيوية ﴿ومنهاجاً﴾ أي طريقاً واضحاً مستنيراً ناسخاً لما قبله، وقد جعلنا شرعتك ناسخة لجميع الشرائع، وهذا وأمثاله - مما يدل على أن كل متشرع مختص بشرع وغير متعبد بشرع من قبله - محمول على الفروع، وما دل على الاجتماع كأنه شرع لكم من الدين محمول على الأصول ﴿ولو شاء الله﴾ أي الملك الأعظم المالك المطلق الذي له التصرف التام والأمر الشامل العام أن يجمعكم على شيء واحد ﴿لجعلكم أمة﴾ أي جماعة متفقة يؤم بعضها بعضاً، وحقق المراد بقوله :﴿واحدة﴾ أي على دين واحد، ولم يجعل شيئاً من الكتب ناسخاً لشيء من الشرائع، لأن الكل بمشيئته، ولا مشيئة لأحد سواه إلا بمشيئته ﴿ولكن﴾ لم يشأ ذلك، بل شاء أن تكونوا على شرائع مختلفة ﴿ليبلوكم﴾ أي ليعاملكم معاملة المبتلى المختبر ﴿فيما آتاكم﴾ أي أعطاكم وقسم بينكم من الشرائع المختلفة ليبرز إلى الوجود ما تعملون في ذلك من اتباع وإذعان اعتقاداً أن ذلك مقتضى الحكمة الإلهية ؛ فترجعون عنه إذا قامت البراهين بالمعجزات على صدق ناسخه، ونهضت الأدلة البينات على صحة دعواه بعد طول الإلف له وإخلاد النفوس إليه واستحكامه بمرور الأعصار وتقلب الأدوار ؛ أو زيغ وميل اتهاماً وتجويزاً كما فعل أول المتكبرين إبليس، فتؤثرون الركون إليه والعكوف عليه لمتابعة الهوى والوقوف عند مجرد الشهوة.
ولما كان في الاختبار أعظم تهديد، سبب عنه قوله :﴿فاستبقوا الخيرات﴾ أي افعلوا في المبادرة إليها بغاية الجهد فعل من يسابق شخصاً يخشى العار بسبقه له، ثم علل ذلك بقوله :﴿إلى الله﴾ أي الشارع لذلك، لا إلى غيره، لأنه الملك الأعلى ﴿مرجعكم جميعاً﴾ وإن اختلفت شرائعكم، حساً في القيامة، ومعنى في جميع أموركم في الدارين ﴿فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً ﴿بما كنتم﴾ أي بحسب اختلاف الجبلات ؛ ولما كان في تقديم الظرف إبهام، وكان الإفهام بعد الإبهام أوقع في النفس، قال ﴿فيه تختلفون﴾ أي تجددون الخلاف مستمرين عليه، ويعطي كلاماً يستحقه، ويظهر سر الاختلاف وفائدة الوفاق والائتلاف. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٤٧٦ ـ ٤٧٨﴾


الصفحة التالية
Icon