وقوله :﴿ قد خلت من قبله الرّسل ﴾ صفة لرسول أريد بها أنّه مساو للرّسل الآخرين الّذين مضوا قبله، وأنّه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختصّ فيه بخصوصيّة لم تكن لغيره في وصف الرّسالة، فلا شبهة للّذين ادّعوا له الإلهيّة، إذ لم يجىء بشيء زائد على ما جاءت به الرسل، وما جرت على يديه إلاّ معجزات كما جرت على أيدي رُسل قبله، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنّها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيّتَه.
وفي هذا نداء على غباوة القوم الّذين استدلّوا على إلهيّته بأنّه أحيا الموتى من الحيوان فإنّ موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حيّة.
وجملة ﴿ وأمّه صدّيقة ﴾ معطوفة على جملة ﴿ ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول ﴾.
والقصد من وصفها بأنّها صدّيقة نفيُ أن يكون لها وصف أعلى من ذلك، وهو وصف الإلهيّة، لأنّ المقام لإبطال قول الّذين قالوا إنّ الله ثالث ثلاثة، إذْ جعلوا مريم الأقنوم الثالث.
وهذا هو الّذي أشار إليه قول صاحب "الكشاف" إذ قال "أي وما أمّه إلاّ صديقة" مع أنّ الجملة لا تشتمل على صيغة حَصر.
وقد وجّهه العلامة التفتازاني في "شرح الكشّاف" بقوله :"الحصر الّذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف" ( أي من مجموع الأمرين ).
وفي قول التفتازاني : والعطف، نظر.
والصدِّيقة صيغة مبالغة، مثل شِرِّيب ومسِّيك، مبالغة في الشُّرب والمَسْك، ولَقَببِ امرىء القيس بالمَلك الضّلِّيل، لأنّه لم يهتد إلى ما يسترجع به مُلك أبيه.
والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقّة من المجرّد الثّلاثي.
فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق، أي صدق وعد ربّها، وهو ميثاق الإيمان وصدقُ وعد النّاس.
كما وُصف إسماعيل عليه السّلام بذلك في قوله تعالى :﴿ واذكر في الكتاب إسماعيل إنّه كان صادق الوعد ﴾ [ مريم : ٥٤ ].
وقد لقّب يوسف بالصدّيق، لأنّه صَدَق وعد ربّه في الكفّ عن المحرّمات مع توفر أسبابها.