وهي قد تكون عقاباً من الله للنّاس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصاً لصادق إيمانهم لتعلوَ بذلك درجاتهم ﴿ إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ﴾ [ البروج : ١٠ ] الآية.
وسمَّى القرآن هاروت وماروت فتنة، وسمَّى النبيءُ ﷺ الدجّال فتنة، وسمَّى القرآن مزالّ الشيطان فتنة ﴿ لا يفتننّكم الشيطان ﴾ [ الأعراف : ٢٧ ].
فكان معنى الابتلاء ملازماً لها.
والمعنى : وظنّوا أنّ الله لا يُصيبهم بفتنة في الدّنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم، فهنالك مجرور مقدّر دالّ عليه السّياق، أي ظنّوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدّنيا فأمنوا عقاب الله في الدّنيا بعد أن استخفّوا بعذاب الآخرة، وتوهّموا أنّهم ناجون منه، لأنّهم أبناء الله وأحبّاؤه، وأنّهم لن تمسّهم النّار إلاّ أياماً معدودة.
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنّهم نبذوا الفكرة فيه ظهرياً وأنّهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدّنيا وأنّهم ضالّون في كلا الأمرين.
ودلّ قوله :﴿ وحَسبوا أن لا تكون فتنة ﴾ على أنّهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا، لأنّهم كانوا أحرص عَلى سلامة الدّنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم.
وهذا شأن الأمم إذا تطرّق إليها الخِذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همّهم مقصوراً على تدبير عاجلتهم، فإذا ظنّوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة، فتطلّبوا السلامة من غير أسبابها، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلّقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجلُ بالفتنة والآجلُ. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٥ صـ ﴾
قوله تعالى ﴿فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾
فصل
قال الفخر :
الآية دالة على أن عماهم وصممهم عن الهداية إلى الحق حصل مرتين.