﴿ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ﴾ أي بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور ؛ ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلاً على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع ﴿ بَصِيرٌ ﴾ هنا مع قوله سبحانه :﴿ عَمُواْ ﴾. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ٦ صـ ﴾
وقال ابن عاشور :
واستعير ﴿ عَمُوا وصَمُّوا ﴾ للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأنّ العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع.
فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضللِ نافع، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النّفوس، لأنّ الانسياق إليه في الجبلّة، فتجنّبه محتاج إلى الوازع، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل، ولذلك كان قوله :﴿ فعموا وصمّوا ﴾ مراداً منه معناه الكنائي أيضاً، وهو أنّهم أساءوا الأعمال وأفسدوا، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله ﴿ ثُمّ تاب الله عليهم ﴾.
وقد تأكّد هذا المراد بقوله في تذييل الآية ﴿ والله بصير بما يعملون ﴾.
وقوله :﴿ ثُمّ تاب الله عليهم ﴾ أي بعد ذلك الضّلال والإعْراض عن الرّشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض.
وقد استفيد من قوله :﴿ أن لا تكون فتنة ﴾ وقوله :﴿ ثُمّ تاب الله عليهم ﴾ أنّهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأنّ الله لمّا تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، ﴿ ثم عَمُوا وصموا ﴾، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذّميم، لأنّهم مصرّون على حُسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة أخرى.
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثّاني ولم يُذكر أنّ الله تاب عليهم بعده، فدلّ على أنّهم أعرضوا عن الحَقّ إعراضاً شديداً مرّة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.


الصفحة التالية
Icon