أن يكون قوله سبحانه وتعالى :﴿ عَن سَوَاء ﴾ متعلقاً ب ﴿ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ﴾ إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى :﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب ﴾ [ آل عمران : ١٨٨ ] ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ٦ صـ ﴾
وقال ابن عاشور :
وقوله :﴿ ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل ﴾ عطف على النّهي عن الغلوّ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه ؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغُلاة من أحبارهم ورُهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل.
فلذلك سمّي تغاليهم أهواء، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيراً مثل ( قيافا ) حَبر اليهود الّذي كفَّر عيسى عليه السّلام وحكم بأنّه يقتل، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث.
وقوله ﴿ من قبلُ ﴾ معناه من قبِلكِم.
وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وغيرُ وحسبُ ودونَ، وأسماء الجهات، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذٍ، ويندر أن تكون معربة إلاّ إذا نُكّرت.
وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكَّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة.
وقوله :﴿ وضلّوا عن سواء السّبيل ﴾ مقابل لقوله :﴿ قد ضلّوا من قبلُ ﴾ فهذا ضلال آخر، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام.
والسواء المستقيمُ، وقد استعير للحقّ الواضح، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعدَ ذلك عن الإسلام.
وقيل : الخطاب بقوله :﴿ يا أهل الكتاب ﴾ للنّصارى خاصّة، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود.
ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم ؛ فيكون الكلام تنفيراً للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٥ صـ ﴾