ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أنّ الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجرّداً عن الكناية.
فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله "إلاّ أنّ الله تعالى قال ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ فقلْنا : لا" إن صحّ عنه ذلك.
ولي في صحته شكّ، فهو خطأ في الفهم أو التأويل.
وقد شذّ نفر من السلَف نقلت عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر، لا يُدرى مبلغها من الصحّة.
ومحملها، إنْ صحّت، علَى أنّهم كانوا يتأوّلون قوله تعالى ﴿ فهل أنتم منتهون ﴾ على أنّه نهي غير جازم.
ولم يَطُل ذلك بينهم.
قيل : إنّ قُدامَة بن مظْعون، مِمَّن شهد بدراً، ولاّه عُمر على البحرين، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنّه شرب الخمر، وأنكر الجارود، وتمّت الشهادة عليه برجل وامرأة.
فلمّا أراد عمر إقامة الحدّ عليه قال قدامة : لو شربتُها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني.
قال عُمر : لِمَ، قال : لأنّ الله يقول :﴿ ليس على الذين آمنوا وعَملوا الصالحات جُناح فيما طعموا إذا ما اتّقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ﴾ [ المائدة : ٩٣ ]، فقال عمر : أخطأت التأويل إنّك إذا اتّقيت الله اجتنبت ما حَرّم عليك".
ويروى أنّ وحشياً كان يشرب الخمر بعد إسلامه، وأنّ جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر، وتأوّلوا التحريم فتلوا قوله تعالى :﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ﴾ [ المائدة : ٩٣ ]، وأنّ عمر استشار عليّاً في شأنهم، فاتّفقا على أن يستتابوا وإلاّ قُتلوا.
وفي صحة هذا نظر أيضاً.
وفي كتب الأخبار أنّ عُيينة بنَ حِصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلّة بني زُبيد بالكوفة فقدّم له عَمْرو خَمراً، فقال عيينةُ : أو ليس قد حرّمها الله.
قال عَمْرو : أنتَ أكبَرُ سِنّاً أم أنا، قال عيينة : أنتَ.
قال : أنتَ أقدَمُ إسلاماً أم أنا، قال : أنتَ.


الصفحة التالية
Icon