قال تعالى :﴿ أوَ لم يروا أنّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطَّف الناس مِنْ حولهم ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
فكان ذلك أمناً مستمراً لسكّان مكة وحرمها، وأمناً يلوذ إليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذاً، ولتحقيق أمنه أمَّن الله وحوشه ودوابّه تقوية لحرمته في النفوس، فكانت الكعبة قياماً لكلّ عربي إذا طرقه ضيم.
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرّض لهم أحد بسوء، فكانوا يتّجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلّغوه إلى من يحتاجونه، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد، فلتعطّلت التجارة والمنافع.
ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجّار، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللَّتين قال الله تعالى فيهما :﴿ لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الستاء والصيف ﴾ [ قريش : ١، ٢ ].
وبذلك كلّه بقيت أمّه العرب محفوظة الجبلّة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها، فتهيّأت بعد ذلك لتلقّي دعوة محمد ﷺ وحملِها إلى الأمم، كما أراد الله تعالى وتمّ بذلك مراده.
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل : إنّ الكعبة كانت قياماً للناس وهم العرب، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتّباع الحنيفية، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلّها لم يعدموا عوائد نفعها.
فلمّا جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال، وبه تكفّر الذنوب، فكانت الكعبة من هذا قياماً للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسّكون به ممّا جعلت الكعبة له قياماً.
وعَطْفُ ﴿ الشهرَ الحرامَ ﴾ على ﴿ الكعبةَ ﴾ شبْه عطف الخاصّ على العامّ باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها، فإنّ الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلاّ من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت.