فَجَعْل الكعبة قياماً مقصود منه صلاح الناس بادىء ذي بدء لأنّه المجعولة عليه، ثم مقصود منه عِلم الناس بأنّه تعالى عليم.
وقد تكون فيه حكم أخرى لأنّ لام العلّة لا تدلّ على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدّد العلل للفعل الواحد، لأنّ هذه علل جعلية لا إيجادية، وإنّما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدّة الاهتمام بها، لأنّها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمّة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك.
فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياماً لأجلها.
والمقصود أنّه يعلم ما في السموات وما في الأرض قبل وقوعه لأنّه جعل التعليل متعلّقاً بجعل الكعبة وما تبعها قياماً للناس.
وقد كان قيامها للناس حاصلاً بعد وقت جعلها بمدّة، وقد حصل بعضُه يتلُو بعضاً في أزمنة متراخية كما هو واضح.
وأمّا كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنّه أولى، ولأنّ كثيراً من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها.
ووجه دلالة جَعْل الكعبة قياماً للناس وما عطف عليها، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، أنّه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم، فلم يدر أحد يومئذٍ إلاّ أنّ إبراهيم اتّخذها مسجداً، ومكة يومئذٍ قليلة السكّان، ثم إنّ الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين إليها، ووقّت للناس أشهراً القصد فيها، وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضارّ كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة، كما بيّنّاه آنفاً.
فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام.
فلا شك أنّ الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمّة كبيرة، وأن ستحمد تلك الأمّة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها.


الصفحة التالية
Icon