وقال ابن عاشور :
﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ﴾
استئناف ابتدائي جاء فارقاً بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما نوّه الله به ممّا كانوا عليه من شعائر الحج، فإنّه لمّا بيّن أنّه جعل الكعبة قياماً للناس وجعل الهدْي والقلائد قياماً لهم، بيّن هنا أنّ أموراً ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيّب، فيكون كالبيان لآية ﴿ قل لا يستوي الخبيث والطيّب ﴾ [ المائدة : ١٠٠ ]، فإنّ البَحيرة وما عطف عليها هنا تشبهُ الهدي في أنّها تحرّر منافعها وذواتها حيّة لأصنامهم كما تهدي الهدايا للكعبة مذكّاة، فكانوا في الجاهلية يزعمون أنّ الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا، ولذلك قال الله تعالى :﴿ قل هلمَّ شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرَّم هذا وقال في هذه الآية : ولكنّ الذين كفروا يفترون على الله الكذب ﴾.
فالتصدّي للتفرقة بين الهدي وبين البحيرة والسائبة ونحوهما، كالتصدّي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله :﴿ إنّ الصفا والمروة من شعائر الله ﴾ [ البقرة : ١٥٨ ] كما تقدّم هنالك.
وقد قدّمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس : أنّ ناساً سألوا رسول الله ﷺ عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية.
وممّا يزيدك ثقة بما ذكرته أنّ الله افتتح هذه الآية بقوله :﴿ ما جعل الله ﴾ لتكون مقابلاً لقوله في الآية الأخرى ﴿ جعل الله الكعبة ﴾ [ المائدة : ٩٧ ].
ولولا ما توسّط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلاّ أنّ الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمّنه.