وأتي بضمير ( هو ) في قوله ﴿ هو الذي خلقكم ﴾ ليحصل تعريف المسند والمسند إليه معاً، فتفيد الجملة القصر في ركني الإسناد وفي متعلّقها، أي هو خالقكم لا غيره، من طين لا من غيره، وهو الذي قضى أجلاً وعنده أجل مسمّى فينسحب حكم القصر على المعطوف على المقصور.
والحال الذي اقتضى القصر هو حال إنكارهم البعث لأنّهم لمّا أنكروه وهو الخلق الثاني نزّلوا منزلة من أنكر الخلق الأول إذ لا فرق بين الخلقين بل الإعادة في متعارف الصانعين أيسرُ كما قال تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾ [ الروم : ٢٧ ] وقال ﴿ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خَلق جديد ﴾ [ ق : ١٥ ].
والقصر أفاد نفي جميع هذه التكوينات عن غير الله من أصنامهم، فهو كقوله :﴿ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء ﴾ [ الروم : ٤٠ ].
والخطاب في قوله ﴿ خلقكم ﴾ موجّه إلى الذين كفروا، ففيه التفات من الغيبة إلى الخطاب لقصد التوبيخ.
وذكر مادّة ما منه الخلق بقوله :﴿ من طين ﴾ لإظهار فساد استدلالهم على إنكار الخلق الثاني، لأنّهم استبعدوا أن يعاد خلق الإنسان بعد أن صار تراباً.
وتكرّرت حكاية ذلك عنهم في القرآن، فقد اعترفوا بأنّهم يصيرون تراباً بعد الموت، وهم يعترفون بأنّهم خلقوا من تراب، لأنّ ذلك مقرّر بين الناس في سائر العصور، فاستدلّوا على إنكار البعث بما هو جدير بأن يكون استدلالاً على إمكان البعث، لأنّ مصيرهم إلى تراب يقرّب إعادة خلقهم، إذ صاروا إلى مادة الخلق الأوّل، فلذلك قال الله هنا ﴿ هو الذي خلقكم من طين ﴾ وقال في آيات الاعتبار بعجيب تكوينه ﴿ إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ﴾ [ الإنسان : ٢ ]، وأمثال ذلك.
وهذا القدح في استدلالهم يسمّى في اصطلاح علم الجدل القولَ بالموجَب، والمنبّهُ عليه من خطأ استدلالهم يسمّى فساد الوضع.