ثم إن تلك النعم يستدل بذكرها على مقصودين شريفين : أحدهما : أن هذه النعم قد حدثت بعد أن كانت معدومة فلا بدّ لها من محدث ومحصل وليس ذلك هو العبد لأن كل أحد يريد تحصيل جميع أنواع النعم لنفسه، فلو كان حصول النعم للعبد بواسطة قدرة العبد واختياره، لوجب أن يكون كل واحد واصلأً إلى جميع أقسام النعم إذ لا أحد إلا وهو يريد تحصيل كل النعم لنفسه، ولما ثبت أنه لا بدّ لحدوث هذه النعم من محدث وثبت أن ذلك المحدث ليس هو العبد، فوجب الاقرار بمحدث قاهر قادر، وهو الله سبحانه وتعالى.
والنوع الثاني : من مقاصد هذه الكلمة أن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها فإذا أمر الله تعالى العبد بالتحميد، وكان الأمر بالتحميد مما يحمله على تذكر أنواع نعم الله تعالى، صار ذلك التكليف حاملاً للعبد على تذكر أنواع نعم الله عليه، ولما كانت تلك النعم كثيرة خارجة عن الحد والاحصاء، صار تذكر تلك النعم موجبة رسوخ حب الله تعالى في قلب العبد.
فثبت أن تذكيرالنعم يفيد هاتين الفائدتين الشريفتين.
إحداهما : الاستدلال بحدوثها عن الاقرار بوجود الله تعالى.
وثانيهما : أن الشعور بكونها نعماً يوجب ظهور حب الله في القلب، ولا مقصود من جميع العبادات إلا هذان الأمران.
فلهذا السبب وقع الابتداء في هذا الكتاب الكريم بهذه الكلمة، فقال :﴿الحمد للَّهِ رَبّ العالمين ﴾.
واعلم أن هذه الكلمة بحر لا ساحل له، لأن العالم اسم لكل ما سوى الله تعالى، وما سوى الله إما جسم أو حال فيه أو لا جسم ولا حال فيه، وهو الأرواح.
ثم الأجسام إما فلكية، وإما عنصرية.
أما الفلكيات فأولها العرش المجيد، ثم الكرسي الرفيع.