ذكر الزمخشري وجهاً ثانياً في تعجيل عذابهم، عند نزول الملائكة، وهو أنه يزول الاختيار الذي هو قاعدة التكليف، فيجب إهلاكهم، وفي " الكشف " الاختيار قاعدة التكليف، وهذه آية ملجئة. قال تعالى :﴿ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا ﴾ [ غافر : ٨٥ ]. فوجب إهلاكهم، لئلا يبقى وجودهم عارياً عن الحكمة، إذ ما خلقوا إلا للابتلاء بالتكليف، وهو لا يبقى مع الإلجاء. هذا تقريره على مذهبهم، وهو غير صاف عن الإشكال. انتهى. وفيه إشارة إلى أنه ليس على قواعد السنة، وكأن وجه إشكاله أنه وقع في القرآن، والواقع ما ينافيه، كما في قوله تعالى :﴿ أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ ﴾ [ البقرة : ٢٥٩ ]. -كذا في " العناية " -وذكر أيضاً وجهاً ثالثاً. وهو أنهم إذا شاهدوا ملكاً في صورته، زهقت أرواحهم من هول ما يشاهدون.
قال في " الانتصاف " : ويقوي هذا الوجه قوله :﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ﴾. قال ابن عباس. ليتمكنوا من رؤيته، ولا يهلكوا من مشاهدة صورته، انتهى.
وهذا الوجه آثره أبو السعود في التقديم حيث قال : أي : لو أنزلنا ملكاً على هيئته حسبما اقترحوه، والحال أنه من هول المنظر، بحيث لا تطيق بمشاهدته قوى الآحاد البشرية. ألا يرى أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يشاهدون الملائكة ويفاوضونهم على الصورة البشرية ؟ كضيف إبراهيم ولوط، وخصم داود عليهم السلام، وغير ذلك. وحيث كان شأنهم كذلك، وهم مؤيدون بالقوى القدسية، فما ظنك بمن عداهم من العوام ؟ فلو شاهدوه كذلك لقضي أمر هلاكهم بالكلية، واستحال جعله نذيراً، وهو - مع كونه خلاف مطلوبهم -مستلزم لإخفاء العالم عما عليه يدور نظام الدنيا والآخرة، من إرسال الرسل، وتأسيس الشرائع، وقد قال سبحانه :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ]. انتهى.