وأما قوله تعالى :﴿وإن يرواْ كل ءاية لاّ يُؤمنواْ بها﴾ قال ابن عباس : وإن يروا كل دليل وحجة لا يؤمنوا بها لأجل أن الله تعالى جعل على قلوبهم أكنة، وهذه الآية تدل على فساد التأويل الأول الذي نقلناه عن الجبائي، ولأنه لو كان المراد من قوله تعالى :﴿وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ إلقاء النوم على قلوب الكفار لئلا يمكنهم التوسل بسماع صوته على وجدان مكانه لما كان قوله ﴿وإن يرواْ كل ءاية لاّ يُؤمنواْ بها﴾ لائقاً بهذا الكلام، وأيضاً لو كان المراد ما ذكره الجبائي لكان يجب أن يقال : وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يسمعوه، لأن المقصود الذي ذكره الجبائي إنما يحصل بالمنع من سماع صوت الرسول عليه السلام أما المنع من نفس كلامه ومن فهم مقصوده، فلا تعلق له بما ذكره الجبائي فظهر سقوط قوله. والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٥٥﴾
سؤال : فإن قلت : هل تكون هاته الآية حجّة للذين قالوا من علمائنا : إنّ إعجاز القرآن بالصَّرْفة، أي أعجز الله المشركين عن معارضته بأن صرفهم عن محاولة المعارضة لتقوم الحجّة عليهم، فتكون الصرفة من جملة الأكنّة التي جعل الله على قلوبهم.
قلت : لم يحتجّ بهذه الآية أصحاب تلك المقالة لأنّك قد علمت أنّ الأكنّة تخييل وأنّ الوقر استعارة وأنّ قول النضر ( ما أدري ما أقول )، بُهتان ومكابرة، ولذلك قال الله تعالى :﴿ وإن يروا كلّ آية لا يؤمنوا بها ﴾.
وكلمة ﴿ كلّ ﴾ هنا مستعملة في الكثرة مجازاً لتعذّر الحقيقة سواء كان التعذّر عقلاً كما في هذه الآية، وقوله تعالى :﴿ فلا تميلوا كلّ الميل ﴾ [ النساء : ١٢٩ ]، وذلك أنّ الآيات تنحصر أفرادها لأنّها أفراد مقدّرة تظهر عند تكوينها إذ هي من جنس عامّ ؛ أم كان التعذّر عادة كقول النابغة :
بها كلّ ذيّال وخنساء ترعوي
إلى كلّ رَجّاف من الرّمل فارد...
فإنّ العادة تحيل اجتماع جميع بقر الوحش في هذا الموضع.


الصفحة التالية
Icon