وقال ابن عاشور :
﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ﴾
يجوز أن تكون الواو للعطف، والمعطوف عليه جملة :﴿ إنّما يستجيب الذين يسمعون ﴾.
والمعنى : والذين كذّبوا بآياتنا ولم يستمعوا لها، أي لا يستجيبون بمنزلة صمّ وبكم في ظلمات لا يهتدون.
ويجوز أن تكون الجملة مستأنفة والواو استئنافية، أي عاطفة كلاماً مبتدأ ليس مرتبطاً بجملة معيّنة من الكلام السابق ولكنّه ناشيء عن جميع الكلام المتقدّم.
فإنّ الله لمّا ذكر من مخلوقاته وآثار قدرته ما شأنه أن يعرّف الناس بوحدانيته ويدلّهم على آياته وصدق رسوله أعقبه ببيان أنّ المكذّبين في ضلال مبين عن الاهتداء لذلك، وعن التأمّل والتفكير فيه، وعلى الوجهين فمناسبة وقوع هذه الجملة عقب جملة :﴿ وما من دابة في الأرض ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ] الآية قد تعرّضنا إليها آنفاً.
والمراد بالذين كذّبوا المشركون الذين مضى الكلام على أحوالهم عموماً وخصوصاً.
وقوله :﴿ صمّ وبكم في الظلمات ﴾ تمثيل لحالهم في ضلال عقائدهم والابتعاد عن الاهتداء بحال قوم صمّ وبُكم في ظلام.
فالصّمم يمنعهم من تلقِّي هدى من يهديهم، والبكَم يمنعهم من الاسترشاد ممّن يمرّ بهم، والظلام يمنعهم من التبصّر في الطريق أو المنفذ المخرج لهم من مأزقهم.
وإنَّما قيل في ﴿ الظلمات ﴾ ولم يوصفوا بأنَّهم عُمّي كما في قوله :﴿ عُميا وبُكما وصمّا ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ] ليكون لبعض أجزاء الهيئة المشبَّهة بها ما يصلح لشبه بعض أجزاء الهيئة المشبَّهة، فإنّ الكفر الذي هم فيه والذي أصارهم إلى استمرار الضلال يشبه الظلمات في الحيلولة بين الداخل فيه وبين الاهتداء إلى طريق النجاة.
وفي الحديث :" الظلم ظلمات يوم القيامة " فهذا التمثيل جاء على أتمّ شروط التمثيل.
وهو قبوله لتفكيك أجزاء الهيئتين إلى تشبيهات مفردة، كقول بشّار :
كأنّ مُثَار النّقع فوقَ رؤوسنا
وأسيافنا ليل تَهادَى كواكبُه...
وجمع الظلمات جار على الفصيح من عدم استعمال الظلمة مفرداً.


الصفحة التالية
Icon