ولما أخبره سبحانه بعلمه بذلك، سبب عنه قوله :﴿فإنهم﴾ أي فلا يحزنك ذلك فإنهم ﴿لا يكذبونك﴾ بل أنت عندهم الأمين، وليكن علمنا بما تلقى منهم سبباً لزوال حزنك، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك، والآية من الاحتباك : حذف من الجملة الأولى - إظهاراً لشرف النبي ﷺ وأدباً معه - سبب الحزن، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه ؛ روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمداً ابن أختكم، وأنتم أحق من كف عنه، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم، فإن غَلِب محمد رجعتم سالمين، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً، فيومئذ سمي " الأخنس "، وكان اسمه " أبي "، فالتقى الأخنس وأبو جهل، فخلا الأخنس به فقال : يا أبا الحكم! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمداً لصادق، وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش! وعن ناجية قال قال أبو جهل للنبي ﷺ : ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به، فأنزل الله الآية وعلى ذلك يدل قوله تعالى :﴿ولكن﴾، وقال :﴿الظالمين﴾ في موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف، اي الذين كانوا في مثل الظلام ﴿بآيات﴾ أي بسبب آيات ﴿الله﴾ أي الملك الأكبر الذي له الكمال كله ﴿يجحدون﴾ قال أبو علي الفارسي في أول كتاب الحجة : أي يجحدون ما عرفوه من صدقك
وأمانتك، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله ﴿وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] ونحوها، وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال : جحد الشيء جحداً وجحوداً : أنكره وهو عالم به.
هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلا إنكار الآيات إلا بالتكذيب، أو ما يؤول إليه، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفاً لك وتكثيراً لأمتك. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٦٢٦ ـ ٦٢٨﴾


الصفحة التالية
Icon