والمعنى لا أقول أعلم الغيب، أي علماً مستمراً ملازماً لصفة الرسالة.
فأمّا إخباره عن بعض المغيّبات فذلك عند إرادة الله إطلاعه عليه بوحي خاصّ، كما قال تعالى :﴿ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول ﴾ [ الجن : ٢٦، ٢٧ ] وهو داخل تحت قوله ﴿ إنْ أتّبع إلاّ ما يوحي إلي ﴾.
وعطف :﴿ ولا أقول لكم إنِّي ملك ﴾ على ﴿ لا أقول لكم عندي خزائن الله ﴾ بإظهار فعل القول فيه، خلافاً لقوله :﴿ ولا أعلم الغيب ﴾ لعلَّه لدفع ثقل التقاء حرفين :( لا ) وحرف ( إنّ ) الذي اقتضاه مقام التأكيد، لأنّ إدّعاء مثله من شأنه أن يؤكّد، أي لم أدّع أنِّي من الملائكة فتقولوا :﴿ لولا أنزل عليه ملك ﴾ [ الأنعام : ٨ ]، فنفي كونه ملكاً جواب عن مقترحهم أن ينزَل عليهم ملك أو أن يكون معه ملك نذيراً.
والمقصود نفي أن يكون الرسول من جنس الملائكة حتى يكون مقارناً لمَلك آخر مقارنة تلازم كشأن أفراد الجنس الواحد.
وكانوا يتوهَّمون أنّ الرسالة تقتضي أن يكون الرسول من غير جنس البشر فلذلك قالوا :﴿ ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ﴾ [ الفرقان : ٧ ].
فالمعنى نفي ماهية المَلَكية عنه لأنّ لجنس الملك خصائص أخرى مغايرة لخصائص البشر.
وهذا كما يقول القائل لمن يكلِّفه عنتاً : إنِّي لست من حديد.
ومن تلفيق الاستدلال أن يستدلّ الجُبائي بهذه الآية على تأييد قول أصحابه المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء مع بُعد ذلك عن مهيع الآية.
وقد تابعه الزمخشري، وكذلك دأبه كثيراً ما يُرْغِم معاني القرآن على مسايرة مذهبه فتنزو عصبيته وتَنْزوي عبقريته، وهذه مسألة سنتكلَّم عليها في مظنَّتها. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٦ صـ ﴾
فصل
قال الفخر :
قال الجبائي : الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء، لأن معنى الكلام لا أدعي منزلة فوق منزلتي ولولا أن الملك أفضل وإلا لم يصح ذلك.
قال القاضي : إن كان الغرض بما نفى طريقة التواضع ؛ فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة، لم يدل على كونهم أفضل. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٩١﴾