قلت : هذه جهالة ممن فعلها وجعل هذه الآية أصلاً لها ؛ هذه عقوبة من الله لمن شاء من عباده أن يمتحنهم بها، ولا يجوز لنا أن نمتحن أنفسنا ونكافئها قياساً عليها ؛ فإنها المطية التي نبلغ عليها دار الكرامة، ونفوز بها من أهوال يوم القيامة ؛ وفي التنزيل ﴿ يا أيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ] وقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٦٧ ].
﴿ يا أيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ] فأمر المؤمنين بما خاطب به المرسلين ؛ وكان رسول الله ﷺ وأصحابه يأكلون الطيبات ويلبسون أحسن الثياب ويتجملون بها ؛ وكذلك التابعون بعدهم إلى هلم جرا، على ما تقدّم بيانه في "المائدة" وسيأتي في "الأعراف" من حكم اللباس وغيره ؛ ولو كان كما زعموا واستدلوا لما كان في امتنان الله تعالى بالزروع والجنات وجميع الثمار والنبات والأنعام التي سخرها وأباح لنا أكلها وشرب ألبانها والدفء بأصوافها إلى غير ذلك مما امتن به كبير فائدة، فلو كان ما ذهبوا إليه فيه الفضل لكان أولى به رسول الله ﷺ وأصحابه ومن بعدهم من التابعين والعلماء، وقد تقدّم في آخر "البقرة" بيان فضل المال ومنفعته والردّ على من أَبَى من جَمْعه ؛ وقد : نهى النبي ﷺ عن الوصال مخافة الضّعف على الأبدان، ونهى عن إضاعة المال ردّاً على الأغنياء الجهال.
قوله تعالى :﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ﴾ أي يدعون ويذلّون، مأخوذ من الضراعة وهي الذلّة ؛ يُقال : ضَرَع فهو ضارع. أ هـ ﴿تفسير القرطبى حـ ٦ صـ ﴾
وقال أبو حيان :
﴿ ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون ﴾