وقال الآلوسى :
﴿ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ﴾ أي فلم يتضرعوا حينئذٍ مع وجود المقتضي وانتفاء المانع الذي يعذرون به، ولولا عند الهروي تكون نافية حقيقة وجعل من ذلك قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءامَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ [ يونس : ٩٨ ] والجمهور حملوه على التوبيخ والتنديم وهو يفيد الترك وعدم الوقوع ولذا ظهر الاستدراك والعطف في قوله تعالى :﴿ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ وليست لولا هنا تحضيضية كما تتوهم لأنها تختص بالمضارع، واختار بعضهم ما ذهب إليه الهروي.
ولما كان التضرع ناشئاً من لين القلب كان نفيه نفيه فكأنه قيل : فما لانت قلوبهم ولكن قست، وقيل : كان الظاهر أن يقال : لكن يجب عليهم التضرع إلا أنه عدل إلى ما ذكر لأن قساوة القلب التي هي المانع يشعر بأن عليهم ما ذكر، ومعنى ﴿ قَسَتْ ﴾ الخ استمرت على ما هي عليه من القساوة أو ازدادت قساوة.
﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ ﴾ من الكفر والمعاصي فلم يخطروا ببالهم أن ما اعتراهم من البأساء والضراء ما اعتراهم إلا لأجله.
والتزيين له معان، أحدها : إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر كقوله تعالى :﴿ زَيَّنَّا السماء الدنيا ﴾ [ الصافات : ٦ ] والثاني : جعله مزيناً من غير إيجاد كتزيين الماشطة العروس.
والثالث : جعله محبوباً للنفس مشتهى وإن لم يكن في نفسه كذلك وهذا إما بمعنى خلق الميل في النفس والطبع وإما بمعنى تزويقه وترويجه بالقول وما يشبهه كالوسوسة والإغواء، وعلى هذا يبنى أمر إسناده فإنه جاء في النظم الكريم تارة مسنداً إلى الشيطان كما في هذه الآية وتارة إليه سبحانه كما في قوله سبحانه ﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٨ ] وتارة إلى البشر كقوله عز وجل :﴿ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مّنَ المشركين قَتْلَ أولادهم شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٣٧ ] فإن كان بالمعنى الأول فإسناده إلى الله تعالى حقيقة، وكذا إذا كان بالمعنى الثالث بناءً على المراد منه أولاً، وإن كان بالمعنى الثاني أو الثالث بناءً على المراد منه ثانياً فإسناده إلى الشيطان أو البشر حقيقة، ولا يمكن إسناد ما يكون بالإغواء والوسوسة إليه سبحانه كذلك.
وجاء أيضاً غير مذكور الفاعل كقوله سبحانه :﴿ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ [ يونس : ١٢ ] وحينئذٍ يقدر في كل مكان ما يليق به، وقد مر لك ما يتعلق بهذا البحث فتذكر. أ هـ ﴿روح المعانى حـ ٧ صـ ﴾
وقال ابن عاشور :
﴿ فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ﴾
( لولا ) هنا حرف توبيخ لدخولها على جملة فعلية ماضوية واحدة، فليست ( لولا ) حرفَ امتناع لوجود.
والتوبيخ إنّما يليق بالحاضرين دون المنقرضين لفوات المقصود.
ففي هذا التنزيل إيماء إلى مساواة الحالين وتوبيخ للحاضرين بالمهمّ من العبرة لبقاء زمن التدارك قطعاً لمعذرهم.
ويجوز أن تجعل ( لولا ) هنا للتّمنّي على طريقة المجاز المرسل، ويكون التّمنّي كناية عن الإخبار بمحبّة الله الأمر المتمنّى فيكون من بناء المجاز على المجاز، فتكون هذه المحبّة هي ما عبّر عنه بالفرح في الحديث " الله أفرح بتوبة عبده " الحديث.


الصفحة التالية
Icon