فصل
قال الفخر :
اعلم أن هذا الكلام من تمام القصة الأولى فبيّن الله تعالى أنه أخذهم أولاً بالبأساء والضراء لكي يتضرعوا ثم بيّن في هذه الآية أنهم لما نسوا ما ذكروا به من البأساء والضراء فتحنا عليهم أبواب كل شيء، ونقلناهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء وأنواع الآلاء والنعماء، والمقصود أنه تعالى عاملهم بتسليط المكاره والشدائد عليهم تارة فلم ينتفعوا به، فنقلهم من تلك الحالة إلى ضدها وهو فتح أبواب الخيرات عليهم وتسهيل موجبات المسرات والسعادات لديهم فلم ينتفعوا به أيضاً.
وهذا كما يفعله الأب المشفق بولده يخاشنه تارة ويلاطفه أخرى طلباً لصلاحه حتى إذا فرحوا بما أوتوا من الخير والنعم، لم يزيدوا على الفرح والبطر من غير انتداب لشكر ولا إقدام على اعتذار وتوبة، فلا جرم أخذناهم بغتة.
واعلم أن قوله ﴿فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ معناه فتحنا عليهم كل شيء كان مغلقاً عنهم من الخير، ﴿حتى إذا فرحوا﴾ أي إذا ظنوا أن الذي نزل بهم من البأساء والضراء ما كان على سبيل الانتقام من الله.
ولما فتح الله عليهم أبواب الخيرات ظنوا أن ذلك باستحقاقهم، فعند ذلك ظهر أن قلوبهم قست وماتت وأنه لا يرجى لها انتباه بطريق من الطرق، لا جرم فاجأهم الله بالعذاب من حيث لا يشعرون.
قال الحسن : في هذه الآية مكر بالقوم ورب الكعبة، وقال ﷺ :" إذا رأيت الله يعطي على المعاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى " ثم قرأ هذه الآية.
قال أهل المعاني : وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من حال السلامة والعافية وقوله :﴿فإذا هم مبلسون﴾ أي آيسون من كل خير.
قال الفرّاء : المبلس الذي انقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس.
وقال الزجاج : المبلس الشديد الحسرة الحزين، والابلاس في اللغة يكون بمعنى اليأس من النجاة عند ورود الهلكة، ويكون بمعنى انقطاع الحجة، ويكون بمعنى الحيرة بما يرد على النفس من البلية وهذه المعاني متقاربة. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٨٦ ـ ١٨٧﴾