فهذه سبيل تنبه الناس لمعنى الحكم في الأمور الوضعية الاعتبارية ثم رأوا أن معناه يقبل الانطباق على الأمور التكوينية الحقيقية إذا نسبت إلى الله سبحانه من حيث قضائه، وقدره فكون النواة مثلا تنمو في التراب ثم تنبسط ساقا وأغصانا وتورق وتثمر وكون النطفة تتبدل جسما ذا حياة وحس وهكذا كل ذلك حكم من الله سبحانه وقضاء، فهذا ما نعلقه من معنى الحكم وهو إثبات شئ لشئ أو إثبات شئ عند شئ.
ونظرية التوحيد التى يبنى عليها القرآن الشريف بنيان معارفه لما كانت تثبت حقيقة التأثير في الوجود لله سبحانه وحده لا شريك له، وإن كان الانتساب مختلفا باختلاف الأشياء غير جار على وتيرة واحدة كما ترى أنه تعالى ينسب الخلق إلى نفسه ثم ينسبه في موارد مختلفة إلى أشياء مختلفة، بنسب مختلفه، وكذلك العلم والقدرة والحياة والمشية والرزق والحسن إلى غير ذلك، وبالجملة لما كان التأثير له تعالى كان الحكم الذى هو نوع من التأثير والجعل له تعالى سواء في ذلك الحكم في الحقائق التكوينية أو في الشرائع الوضعية الاعتبارية، وقد أيد كلامه تعالى هذا المعنى كقوله :( إن الحكم إلا لله ) ( الأنعام : ٥٧ يوسف : ٦٧ ) وقوله تعالى :( ألا له الحكم ) ( الأنعام : ٦٢ ) وقوله :( له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم ) ( القصص : ٧٠ ) وقوله تعالى :( والله يحكم لا معقب لحكمه ) ( الرعد : ٤١ ) ولو كان لغيره تعالى حكم لكان له أن يعقب حكمه ويعارض مشيته، وقوله :( فالحكم لله العلى الكبير ) ( المؤمن : ١٢ ) إلى غير ذلك، فهذه آيات خاصة أو عامة تدل على اختصاص الحكم التكويني به تعالى.


الصفحة التالية
Icon