قالوا : وإذا ثبت هذا فنقول : الموجود إما أن يكون واجباً لذاته، وإما أن يكون ممكناً لذاته، والواجب لذاته ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاته وكل ما سوى الحق سبحانه فهو موجود بإيجاده كائن بتكوينه واقع بإيقاعه.
إما بغير واسطة وإما بواسطة واحدة وإما بوسائط كثيرة على الترتيب النازل من عنده طولاً وعرضاً.
إذا ثبت هذا فنقول : علمه بذاته يوجب عمله بالأثر الأول الصادر منه، ثم علمه بذلك الأثر الأول يوجب عمله بالأثر الثاني لأن الأثر الأول علة قريبة للأثر الثاني.
وقد ذكرنا أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول فبهذا علم الغيب ليس إلا علم الحق بذاته المخصوصة ثم يحصل له من علمه بذاته علمه بالآثار الصادرة عنه على ترتيبها المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاته لا جرم صح أن يقال :﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ فهذا هو طريقة هؤلاء الفرقة الذين فسروا هذه الآية بناء على هذه الطريقة.
ثم اعلم أن ههنا دقيقة أخرى، وهي : أن القضايا العقلية المحضة يصعب تحصيل العلم بها على سبيل التمام والكمال إلا للعقلاء الكاملين الذين تعودوا الإعراض عن قضايا الحس والخيال وألفوا استحضار المعقولات المجردة، ومثل هذا الإنسان يكون كالنادر وقوله :﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾ قضية عقلية محضة مجردة فالإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جداً.
والقرآن إنما أنزل لينتفع به جميع الخلق.