إذا عرفت هذا فنقول : المقصود من الآية أن يقال إنكم إما أن تريدوا بكونه والداً لله تعالى أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ووالد.
وإما أن تريدوا بكونه ولد الله تعالى كما هو المألوف المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين.
أما الاحتمال الأول : فباطل، وذلك لأنه تعالى وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل بناء على أسباب معلومة ووسايط مخصوصة إلا أن النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث، وإذا كان الأمر كذلك.
لزمهم الاعتراف بأنه تعالى خلق السموات والأرض من غير سابقة مادة ولا مدة، وإذا كان الأمر كذلك.
وجب أن يكون إحداثه للسموات والأرض إبداعاً فلو لزم من مجرد كونه مبدعاً لإحداث عيسى عليه السلام كونه والداً له لزم من كونه مبدعاً للسموات والأرض كونه والداً لهما.
ومعلوم أن ذلك باطل بالاتفاق، فثبت أن مجرد كونه مبدعاً لعيسى عليه السلام لا يقتضي كونه والداً له، فهذا هو المراد من قوله :﴿بَدِيعُ السموات والأرض﴾ وإنما ذكر السموات والأرض فقط ولم يذكر ما فيهما لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع، أما حدوث ذات السموات والأرض فقد كان على سبيل الإبداع، فكان المقصود من الإلزام حاصلاً بذكر السموات والأرض.
لا بذكر ما في السموات والأرض، فهذا إبطال الوجه الأول.
وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يكون مراد القوم من الولادة هو الأمر المعتاد المعروف من الولادة في الحيوانات، فهذا أيضاً باطل ويدل عليه وجوه :
الوجه الأول : أن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة وشهوة، وينفصل عنه جزء ويحتبس ذلك الجزء في باطن تلك الصاحبة، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على خالق العالم محال.