و ( من ) ابتدائيّة تتعلّق ب"جاء" أو صفة ل ﴿ بصائر ﴾، وقد جعل خطاب الله بها بمنزلة ابتداء السّير من جَانبه تعالى، وهو منزّه عن المكان والزّمان، فالابتداء مجاز لغوي، أو هو مجاز بالحذف بتقدير : مِن إرادةِ ربّكم.
والمقصود التّنويه بهذه التّعاليم والذّكريات الّتي بها البصائر، والحثّ على العمل بها، لأنّها مسداة إليهم ممّن لا يقع في هديه خلل ولا خطأ، مع ما في ذكر الربّ وإضافته من تربية المهابة وتقوية داعي العمل بهذه البصائر.
ولذلك فرّع عليه قوله :﴿ فمن أبصر فلنفسه ﴾، أي فلا عذر لكم في الاستمرار على الضّلال بعد هذه البصائر، ولا فائدة لغيركم فيها. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٦ صـ ﴾
فصل في أحكام هذه الآية
قال الفخر :
وهي أربعة ذكرها القاضي : فالأول : الغرض بهذه البصائر أن ينتفع بها اختياراً استحق بها الثواب لا أن يحمل عليها أو يلجأ إليها، لأن ذلك يبطل هذا الغرض.
والثاني : أنه تعالى إنما دلنا وبين لنا منافع، وأغراض المنافع تعود إلينا لا لمنافع تعود إلى الله تعالى.
والثالث : أن المرء بعدوله عن النظر والتدبر يضر بنفسه، ولم يؤت إلا من قبله لا من قبل ربه.
والرابع : أنه متمكن من الأمرين، فلذلك قال :﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا﴾ قال : وفيه إبطال قول المجبرة في المخلوق، وفي أنه تعالى يكلف بلا قدرة.
واعلم أنه متى شرعت المعتزلة في الحكمة والفلسفة والأمر والنهي، فلا طريق فيه إلا معارضته بسؤال الداعي فإنه يهدم كل ما يذكرونه.
والمراد من الإبصار ههنا العلم، ومن العمي الجهل، ونظيره قوله تعال :﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور﴾ [ الحج : ٤٦ ]. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١١٠﴾. بتصرف يسير.
فائدة
قال الفخر :
قال المفسرون قوله :﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا﴾ معناه لا آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ عليكم والوكيل.
قالوا : وهذا إنما كان قبل الأمر بالقتال، فلما أمر بالقتال صار حفيظاً عليهم، ومنهم من يقول آية القتال ناسخة لهذه الآية، وهو بعيد فكأن هؤلاء المفسرين مشغوفون بتكثير النسخ من غير حاجة إليه، والحق ما تقرره أصحاب أصول الفقه إن الأصل عدم النسخ، فوجب السعي في تقليله بقدر الإمكان. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١١٠﴾