وبينا أن تلك الداعية لا بد وأن تكون بخلق الله تعالى، ولا معنى لتلك الداعية إلا علمه واعتقاده أو ظنه باشتمال ذلك الفعل على نفع زائد، ومصلحة راجحة، وإذا كانت تلك الداعية حصلت بفعل الله تعالى، وتلك الداعية لا معنى لها إلا كونه معتقداً لاشتمال ذلك الفعل على النفع الزائد، والمصلحة الراجحة.
ثبت أنه يمتنع أن يصدر عن العبد فعل، ولا قول ولا حركة ولا سكون، إلا إذا زين الله تعالى ذلك الفعل في قلبه وضميره واعتقاده، وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفراً وجهلاً، والعلم بذلك ضروري بل إنما يختاره لاعتقاده كونه إيماناً وعلماً وصدقاً وحقاً فلولا سابقة الجهل الأول لما اختار هذا الجهل.
الثاني : ثم إنا ننقل الكلام إلى أنه لم اختار ذلك الجهل السابق، فإن كان ذلك لسابقة جهل آخر فقد لزم أن يستمر ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات وذلك محال، ولما كان ذلك باطلاً وجب انتهاء تلك الجهالات إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه ابتداء، وهو بسبب ذلك الجهل ظن في الكفر كونه إيماناً وحقاً وعلماً وصدقاً، فثبت أنه يستحيل من الكافر اختيار الجهل والكفر إلا إذا زين الله تعالى ذلك الجهل في قلبه، فثبت بهذين البرهانين القاطعين القطعيين أن الذي يدل عليه ظاهر هذه الآية هو الحق الذي لا محيد عنه، وإذا كان الأمر كذلك، فقد بطلت التأويلات المذكورة بأسرها، لأن المصير إلى التأويل إنما يكون عند تعذر حمل الكلام على ظاهره.
أما لما قام الدليل على أنه لا يمكن العدول عن الظاهر، فقد سقطت هذه التكليفات بأسرها والله أعلم.
وأيضاً فقوله تعالى :﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ بعد قوله :﴿فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى.
فأما أن يحمل ذلك على أنه تعالى زين الأعمال الصالحة في قلوب الأمم، فهذا كلام منقطع عما قبله، وأيضاً فقوله :﴿كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ يتناول الأمم الكافرة والمؤمنة، فتخصيص هذا الكلام بالأمة المؤمنة ترك لظاهر العموم، وأما سائر التأويلات، فقد ذكرها صاحب "الكشاف" : وسقوطها لا يخفى، والله أعلم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١١٦﴾


الصفحة التالية
Icon