ومنه يتضح معنى قول أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه : إن الله تعالى لم يعص مغلوباً ولم يطع مكرهاً ولم يملك تفويضاً ولم يكونوا مجبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابع للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعاً لما هو متأخر عنه بمراتب فمن وجد خيراً فليحمد الله تعالى لأنه سبحانه متفضل بإيجاد ما اختاروه لا يجب عليه مراعاة الحكمة ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأن إرادته جل شأنه لم تتعلق بما صدر منهم من الأفعال إلا لكونهم اختاروها أزلاً بمقتضى استعدادهم فاختارها تعالى مراعاة للحكمة تفضلاً، والعباد كاسبون بالله تعالى إذ لا كسب إلا بقوة ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والله تعالى خالق أعمالهم بهم لأنه سبحانه أخبر بأنه خالق أعمالهم مع نسبة العمل إليهم المتبادر منها صدورها منهم باختيارهم وذلك يقتضي أن المخلوق لله تعالى بالعبد عين مكسوب العبد بالله تعالى، ولا منافاة بين كون الأعمال مخلوقة لله تعالى وبين كونها مكسوبة لهم بقدرتهم واختيارهم، وما شاع عن الأشعري من أنه لا تأثير لقدرة العبد أصلاً وإنما هي مقارنة للفعل وهو بمحض قدرة الله تعالى فمما لا يكاد يقبل عند المحققين المحقين، وقدرة العبد عندهم مؤثرة بإذن الله تعالى لا استقلالاً كما يزعمه المعتزلة ولا غير مؤثرة كما نسب إلى الأشعري ولا هي منفية بالكلية كما يقوله الجبرية، وهذا بحث مفروغ منه وقد أشرنا إليه في أوائل التفسير، وليس غرضنا هنا سوى تحقيق أن عدم إيمان الكفار إنما هو لسوء استعدادهم الأزلي الغير المجعول المتبوع للعلم المتبوع للإرادة ليعلم منه ما في كلام الشهاب وغيره وقد حصل ذلك بتوفيقه تعالى عند من تأمل وأنصف.


الصفحة التالية
Icon