إذن فالإجرام هو الإقدام على القبائح اقداماً يجعل الإنسان عازلاً نفسه عن خير مجتمعه ؛ لأنه يريد كل شيء لنفسه. ومادام كل شيء لنفسه فعامل التسلط موجود فيه، ويرتكب الرذائل. ولأنه يرتكب الرذائل فهو يريد من كل المجتمع أن تنتشر فيه مثل هذه الرذائل ؛ لكي لا يشعر أن هناك واحداً أحسن منه. ﴿.. لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٢٣ ]
والمكر- كما نعرف- مأخوذ من التفاف الأغصان بعضها على بعض التفافاً بحيث لا تستطيع إذا أمسكت ورقة من أعلى أن تقول هذه الورقة من هذا الفرع ؛ لأن الأغصان والفروع ملفوفة ومتشابكة ومجدولة بعضها مع بعض. والماكر يصنع ذلك لأنه يريد أن يلف تبييته حتى لا يُكشف عنه، ومادام يفعل ذلك فاعلم من أول الأمر أنه ضعيف التكوين ؛ لأنه لو لم يعلم ضعف تكوينه لما مكر لأن القوي لا يمكر أبداً، بل يواجه، ولذلك يقول الشاعر :

وضعيفة فإذا أصابت فرصة قتلت كذلك قدرة الضعفاء
والضعيف عندما يملك فهو يحدث لنفسه بأن هذه الفرصة لن تتكرر، فيجهز على خصمه خوفاً من الا تأتي له فرصة أخرى، لكن القوي حين يأتي لخصمه فيمسكه ثم يحدث نفسه بأن يتركه، وعندما يرتكب هذا الخصم حماقة جديدة فيعاقبه.
إذن فلا يمكر الا الضعيف. والحق سبحانه وتعالى في هذه المسألة يتكلم عن المجرمين من أكابر الناس، أي الذين يتحكمون في مصائر الناس، ويفسدون فيها ولا يقدر أحد أن يقف في مواجهتهم. وهناك كثير من الآيات تتعلق بهذه المسألة، وبعضها وقع فيه الجدل والخلاف، ومن العجيب أن الخلاف لم يُصفَّ، وكل جماعة من العلماء يتمسكون برأيهم. وهذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها تلتقي مع القول الحق :﴿ وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ﴾ [ الإسراء : ١٦ ]


الصفحة التالية
Icon