ثم إن القسم الأول يقع الاختلاف فيه بالزيادة والنقصان والقوة والضعف إلى مراتب لا نهاية لها، فلا جرم كانت مراتب الرسل مختلفة، فمنهم من حصلت له المعجزات القوية والتبع القليل، ومنهم من حصلت له معجزة واحدة أو اثنتان وحصل له تبع عظيم، ومنهم من كان الرفق غالباً عليه، ومنهم من كان التشديد غالباً عليه، وهذا النوع من البحث فيه استقصاء، ولا يليق ذكره بهذا الموضع وقوله تعالى :﴿الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ فيه تنبيه على دقيقة أخرى.
وهي : أن أقل ما لا بد منه في حصول النبوة والرسالة البراءة عن المكر والغدر، والغل والحسد.
وقوله :﴿لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَا أُوتِىَ رُسُلُ الله﴾ عين المكر والغدر والحسد، فكيف يعقل حصول النبوة والرسالة مع هذه الصفات ؟ ثم بين تعالى أنهم لكونهم موصوفين بهذه الصفات الذميمة سيُصيبهم صَغار عند الله وعذاب شديد وتقريره أن الثواب لا يتم إلا بأمرين، التعظيم والمنفعة، والعقاب أيضاً إنما يتم بأمرين : الإهانة والضرر.
والله تعالى توعدهم بمجموع هذين الأمرين، في هذه الآية، أما الإهابة فقوله :﴿سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ وإنما قدم ذكر الصغار على ذكر الضرر، لأن القوم إنما تمردوا عن طاعة محمد عليه الصلاة والسلام طلباً للعز والكرامة، فالله تعالى بين أنه يقابلهم بضد مطلوبهم، فأول ما يوصل إليهم إنما يوصل الصغار والذل والهوان، وفي قوله :﴿صَغَارٌ عِندَ الله﴾ وجوه : الأول : أن يكون المراد أن هذا الصغار إنما يحصل في الآخرة، حيث لا حاكم ينفذ حكمه سواه.
والثاني : أنهم يصيبهم صغار بحكم الله وإيجابه في دار الدنيا، فلما كان ذلك الصغار هذا حاله، جاز أن يضاف إلى عند الله.
الثالث : أن يكون المراد ﴿سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ﴾ ثم استأنف.
وقال :﴿عَندَ الله﴾ أي معدلهم ذلك، والمقصود منه التأكيد، الرابع : أن يكون المراد صغار من عند الله، وعلى هذا التقدير : فلا بد من إضمار كلمة "من" وأما بيان الضرر والعذاب، فهو قوله :﴿وَعَذَابٌ شَدِيدٌ﴾ فحصل بهذا الكلام أنه تعالى أعد لهم الخزي العظيم والعذاب الشديد، ثم بين أن ذلك إنما يصيبهم لأجل مكرهم وكذبهم وحسدهم. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١٤٤ ـ ١٤٥﴾