وكان العرب يعتقدون أنّ الفيافي والأودية المتّسعة بين الجبال معمورة بالجنّ، ويتخيّلون أصوات الرّياح زَجل الجنّ.
قال الأعشى :
وبلدةٍ مثل ظَهْر التُّرس موحِشةٍ
للجِنّ باللّيل في حَافَاتها زَجَل...
وفي الكلام تعريض بتوبيخ الإنس الّذين اتَّبعوهم، وأطاعوهم، وأفرطوا في مرضاتهم، ولم يسمعوا مَن يدعوهم إلى نبذ متابعتهم، كما يدلّ عليه قوله الآتي :﴿ يا معشر الجنّ والإنس ألم يأتكم رسل منكم ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] فإنَّه تدرّج في التّوبيخ وقطععِ المعذرة.
والمراد بأوليائهم أولياء الجنّ : أي الموالون لهم، والمنقطعون إلى التعلّق بأحوالهم.
وأولياء الشّياطين هم المشركون الّذين وافوا المحشر على الشّرك.
وقيل : أريد به الكفّار والعصاة من المسلمين، وهذا باطل لأنّ العاصي وإن كان قد أطاع الشّياطين فليس وليّاً لها ﴿ اللَّهُ ولي الذين آمنوا ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] ولأنّ الله تعالى قال في آخر الآية :﴿ ألم يأتكم رسل منكم ﴾ [ الأنعام : ١٣٠ ] وقال :﴿ وشَهِدوا على أنفسهم أنَّهم كانوا كافرين ﴾.
و﴿ من الإنس ﴾ بيان للأولياء. أ هـ ﴿التحرير والتنوير حـ ٧ صـ ﴾
قوله تعالى ﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس﴾
فصل
قال الفخر :
أما قوله :﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس﴾ فالأقرب أن فيه حذفاً، فكما قال للجن تبكيتاً، فكذلك قال للإنس توبيخاً لأنه حصل من الجن الدعاء، ومن الإنس القبول، والمشاركة حاصلة بين الفريقين، فلما بكت تعالى كلا الفريقين حكى ههنا جواب الإنس، وهو قولهم : ربنا استمتع بعضنا ببعض فوصفوا أنفسهم بالتوفر على منافع الدنيا، والاستمتاع بلذاتها إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي عنده أيقنوا بسوء عاقبتهم.
ثم ههنا قولان : الأول : أن قولهم استمتع بعضنا ببعض، المراد منه أنه استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن، وعلى هذا القول ففي المراد بذلك الاستمتاع قولان :