القول الأول : أن معنى هذا الاستمتاع هو أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض قفر وخاف على نفسه قال : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فيبيت آمناً في نفسه، فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني، كان ذلك تعظيماً منهم للجن، وذلك الجني يقول : قد سدت الجن والإنس، لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه، وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج واحتجوا على صحته بقوله تعالى :﴿وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مّنَ الجن﴾ [ الجن : ٦ ].
والوجه الثاني : في تفسير هذا الاستمتاع أن الإنس كانوا يطيعون الجن وينقادون لحكمهم فصار الجن كالرؤساء، والإنس كالأتباع والخادمين المطيعين المنقادين الذين لا يخالفون رئيسهم ومخدومهم في قليل ولا كثير، ولا شك أن هذا الرئيس قد انتفع بهذا الخادم، فهذا استمتاع الجن بالإنس.
وأما استمتاع الإنس بالجن، فهو أن الجن كانوا يدلونهم على أنواع الشهوات واللذات والطيبات ويسهلون تلك الأمور عليهم، وهذا القول اختيار الزجاج.
قال : وهذا أولى من الوجه المتقدم، والدليل عليه قوله تعالى :﴿قَدِ استكثرتم مّنَ الإنس﴾ ومن كان يقول من الإنس أعوذ بسيد هذا الوادي، قليل.
والقول الثاني : أن قوله تعالى :﴿رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ هو كلام الإنس خاصة، لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر لا يكاد يظهر.
أما استمتاع بعض الإنس ببعض، فهو أمر ظاهر.
فوجب حمل الكلام عليه، وأيضاً قوله تعالى :﴿وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُم مّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ﴾ كلام الإنس الذين هم أولياء الجن، فوجب أن يكون المراد من استمتاع بعضهم ببعض استمتاع بعض أولئك القوم ببعض.
ثم قال تعالى حكاية عنهم :﴿وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الذى أَجَّلْتَ لَنَا﴾ فالمعنى : أن ذلك الاستمتاع كان حاصلاً إلى أجل معين ووقت محدود، ثم جاءت الخيبة والحسرة والندامة من حيث لا تنفع، واختلفوا في أن ذلك الأجل أي الأوقات ؟ فقال بعضهم : هو وقت الموت.
وقال آخرون : هو وقت التخلية والتمكين.
وقال قوم : المراد وقت المحاسبة في القيامة، والذين قالوا بالقول الأول قالوا إنه يدل على أن كل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله، لأنهم أقروا أنا بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا، وفيهم المقتول وغير المقتول. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١٥٦ ـ ١٥٧﴾