فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة، وارتكبوا به أضراراً حاصلة، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم : سفهاً، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل.
وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم.
وقوله :﴿ سفهاً ﴾ منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل : أنّه قتلُ سفه لا رأي لصاحبه، بخلاف قتل العَدوّ وقتْل القاتل، ويجوز أن ينتصب على الحال من ﴿ الذين قتلوا ﴾، وصفوا بالمصدر لأنّهم سفهاءُ بالغون أقصى السفه.
والباء في قوله :﴿ بغير علم ﴾ للملابسة، وهي في موضع الحال إمَّا منْ ﴿ سفهاً ﴾ فتكون حالاً مؤكّدة، إذ السفه لا يكون إلاّ بغير علم، وإمَّا من فاعل ﴿ قتلوا ﴾، فإنَّهم لمّا فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدّروا حصوله لهم من الضرّ، إذ قد يحصل خلاف ما قدّروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة.
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم، بعد الإخبار عنه بأنّه سفَه.
التّنبيه على أنَّهم فعلوا ذلك ظنّا منهم أنَّهم أصابوا فيما فعلوا، وأنَّهم علموا كيف يَرأبُون ما في العالم من المفاسد، وينظمون حياتهم أحسن نظام، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم، وجاهلون بأنَّهم يجهلون ﴿ الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعا ﴾ [ الكهف : ١٠٤ ].
وتقدّم الكلام على الوأد آنفاً، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله :﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾ [ الإسراء : ٣١ ].


الصفحة التالية
Icon