والمقام يدلّ على أنّ هذا القول كانَ باعثاً على إنزال هذا الكتاب، والعلّة الباعثة على شيء لا يلزم أن تكون علّة غائية، فهذا المعنى في اللاّم عكس معنى لام العاقبة، ويؤول المعنى إلى أنّ إنزال الكتاب فيه حِكَم منها حكمة قطع معذرتهم بأنَّهم لم ينزّل إليهم كتاب، أو كراهية أن يقولوا ذلك، أو لتجنّب أن يقولوه، وذلك بمعونة المقام إيثاراً للإيجاز فلذلك يقدّر مضافٌ مثل : كراهيةَ أو تجنّبَ.
وعلى هذا التّقدير جرى نحاة البصرة.
وذهب نحاة الكوفة إلى أنَّه على تقدير ( لاَ ) النّافية، فالتّقدير عندهم : أنْ لا تقولوا، والمآل واحد ونظائر هذا في القرآن كثيرة كقوله :﴿ يبين الله لكم أن تضلوا ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] وقوله :﴿ واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله ﴾ [ الزمر : ٥٥، ٥٦ ] وقوله :﴿ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم ﴾[ النحل : ١٥ ] أي لتجنّب مَيْدها بكم، وقول عمرو بن كثلوم:
فَعَجَّلْنَا القِرَى أنْ تَشْتُمُونَا...
وهذا القول يجُوز أن يكون قد صدر عنهم من قبلُ، فقد جاء في آية سورة القصص ( ٤٨ ) :﴿ فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ﴾ ويجُوز أن يكون متوقّعاً ثمّ قالوه من بعد، وأيّاً مَا كان فإنَّه متوقّع أن يكرّروه ويعيدوه قولاً موافقاً للحال في نفس الأمر، فكان متوقّعاً صدوره عند ما يتوجّه الملام عليهم في انحطاطهم عن مجاوريهم من اليهودِ والنّصارى من حيث استكمال الفضائل وحسن السّير وكمال التديّن، وعند سؤالهم في الآخرة عن اتّباع ضلالهم، وعندما يشاهدون ما يناله أهل الملل الصّالحة من النّعيم ورفع الدّرجات في ثواب الله فيتطلّعون إلى حظّ من ذلك ويتعلّلون بأنَّهم حرموا الإرشاد في الدّنيا.